للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كيفية الطلب ومراتبه]

قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله تعالى في كتابه حلية طالب العلم: [الفصل الثاني: كيفية الطلب والتلقي: السادس عشر: كيفية الطلب ومراتبه: من لم يتقن الأصول حرم الوصول، ومن رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وقيل أيضاً: ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم].

هذه ثلاثة قواعد من أروع القواعد في طريقة طلب العلم، وينبغي على طالب العلم أن يحفظ هذه القواعد، وأن يرددها دائماً.

ومعنى: (رام العلم) يعني: طلب العلم، (جملة) يعني: من طلب العلم دفعة واحدة، فإنه سيفقده دفعة واحدة، يعني: لو أن إنساناً أراد أن يبني لنفسه برنامجاً علمياً خلال هذه السنة، فحشد في هذا البرنامج أكثر من عشرة علوم، وحشد في كل علم من هذه العلوم عشرة كتب من الكتب الدقيقة التي تحتوي على المسائل النادرة، ثم بدأ يشتغل فيها دفعة واحدة وفي وقت واحد، فإنه سيخرج في نهاية الأمر وليس معه شيء، وقد يكون معه معلومات عامة، مثل أسماء الكتب والمؤلفين، وبعض رءوس المسائل.

أما أنه يتقن فقطعاً لن يتقن، وهذا هو معنى قوله: (من رام العلم جملة ذهب عنه جملة) وأما قوله: (ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم).

فهو لو أن إنساناً أراد أن يبحث مسألة فقهية من المسائل الدقيقة والغامضة، والتي كثر فيها النزاع والاختلاف، ثم ساق له المتكلم عشرون مذهباً بما فيها المذاهب النادرة والغريبة والشاذة والمندثرة.

ثم بدأ يذكر لكل مذهب الأدلة التي ربما تصل إلى عشرة ويذكر مع كل دليل وجه الاستدلال، والقاعدة الأصولية التي بني عليه هذا الاستدلال، وما يتعلق بها من خلاف.

هل تتصورون أن هذا الطالب سيفقه شيئاً؟ قطعاً لن يفقه شيئاً؛ لأنه علم كبير اجتمع في ذهنه ودخل في أذن وخرج من الأخرى؛ لأن القلب بطبيعته لا يمكن أن يحوي هذه الأمور دفعة واحدة.

فينبغي على طالب العلم أن يأخذ المسائل مسألة مسألة، ويعرف صورة المسألة سواء كانت فقهية أو عقدية، ثم بعد أن يعرف صورة المسألة يعرف الأدلة عليها، ثم بعد أن يعرف الأدلة عليها، يعرف وجه الاستدلال المتعلق بها، وهكذا.

بهذه الطريقة يستطيع أن يتفقه، ولا يشترط أن يتعلم هذه الأشياء في لقاء واحد، ربما في اللقاء الأول يحتاج أن يتعلم صورة المسألة، ثم في اللقاء الثاني يتعلم أدلة المسألة، وإذا كانت كثيرة يمكن أن توزع على لقاءين، وإذا أخذ هذه المسائل انتقل بعد ذلك إلى الأدلة، ثم وجه الاستدلال بشكل بطيء لكنه أكيد المفعول، فقد يستغرق فترة طويلة لدراسة كتاب لكنه سيكون قد استفاد فائدة بليغة بإذن الله.

ولهذا ينبغي على طالب العلم في بداية طلبه للعلم ألا يشغل نفسه بمجموعة كبيرة من الكتب، وألا يشغل نفسه بالتفصيلات الدقيقة في كل علم من العلوم، ولهذا نحن نركز على المسائل العامة الأساسية، وما يتعلق بها من مسائل يكون طالب العلم بحاجة إليها، فإذا تصورها تصوراً جيداً فإنه في نهاية الأمر سيكون قد استفاد.

ولهذا أهل العلم يؤلفون الكتب مترتبة بعضها على بعض، حتى لا يبدأ طالب العلم بالفقه العالي، أو بالكتب العالية في العقيدة، مثلاً ابن قدامة المقدسي رحمه الله كان فقيهاً ومعلماً في نفس الوقت، لذا ألف في الفقه أربعة كتب، وجعلها على شكل سنوات دراسية، فأول متن ألفه هو عمدة الفقه، حصره في رواية واحدة من روايات الإمام أحمد فيما يتعلق بالمسائل الفقهية.

والكتاب الذي فوقه المقنع، جاء فيه بروايتين.

ثم كتاب الكافي، وجاء فيه بأكثر من رواية، ويرجح فيه بين هذه الروايات.

ثم الكتاب العالي هو المغني، وهو يجمع مع مذهب الإمام أحمد مجموعة أخرى من المذاهب، ويناقش الأدلة والمسائل، ويرجح ما يراه، وقد يذكر فروعاً دقيقة وغامضة، وأمثلة متعددة، ويبين أنها مبنية على أصل واحد، بهذه الطريقة يستطيع طالب العلم أن يستفيد.

لو أراد أن يبدأ بالمغني دفعة واحدة لن يستفيد، ولو أراد أنه في شهر واحد ينتهي من عمدة الفقه، وفي الشهر الثاني ينتهي من المقنع، وفي الشهر الثالث من الكافي، وفي الشهر الرابع من المغني، لن يستفيد، لماذا العجلة؟ أهم شيء هو أن يتقن الإنسان، ويستمر في عملية طلب العلم، ويستمر أيضاً في المراجعة بشكل دائم، بهذه الطريقة يستفيد طالب العلم.

أما أن يدرس المسائل الكثيرة والمتعددة دفعة واحدة، فإنه لن يستفيد كثيراً.

<<  <  ج: ص:  >  >>