[كسب العبد]
الدرجة الثانية: درجة الأشاعرة الذين قالوا: العبد ليس مجبوراً جبراً تاماً، وإنما الله عز وجل هو الفاعل الحقيقي، والعبد له اسم الفعل، فأنت عندما تقول: قام زيد، فإنك نسبت القيام إلى زيد، والعبد ليس له إرادة أو اختيار في القيام، فالقيام في الحقيقة هو من خلق الله عز وجل، وليس العبد مختاراً فيه، لكن العبد ينسب إليه هذا الاسم وهذا الوصف وهو القيام، فيكون العبد كاسباً لهذا العمل، ولهذا يسمونها: نظرية الكسب، فهو كاسب لهذا العمل، لكن العمل في الحقيقة ليس هو عمل العبد.
وشبهها البغدادي في أصول الدين بتشبيه يوضح الصورة ويقربها إلى درجة كبيرة جداً.
وأهل السنة يقولون: العبد كله مخلوق لله سبحانه وتعالى، بكل قدراته وإمكانياته وإراداته وعزمه وفعله، وقد خلق الله عز وجل العبد مختاراً، فالاختيار والإرادة الموجودة في العبد هي من خلق الله سبحانه وتعالى، والقدرة التي في العبد هي من خلق الله عز وجل، والفعل الذي ينتج عن العبد باجتماع القدرة والإرادة يكون من خلق الله سبحانه وتعالى.
فالأفعال التي يفعلها العبد من القيام والجلوس من خلق الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن للعبد أن ينفرد بشيء دون خلق الله سبحانه وتعالى، وإلا لكان خالقاً، وهذا في غاية الباطل، فإن الله وحده هو الخالق، والعبد هو المخلوق.
إذاً: الله عز وجل خلق العبد وخلق له إرادة فهل له قدرة واختيار أن يفعل أو لا يفعل؟ نعم له قدرة واختيار، ويمكن له أن يفعل الفعل، وألا يفعله.
وهل هي قدرة مستقلة عن قدرة الله؟ ليست مستقلة عن قدرة الله، قال الله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٩]، فليست هناك مشيئة للعبد مستقلة، بل هي ضمن مشيئة الله سبحانه وتعالى، وفعل العبد يكون على وجه السببية، يعني: أنه سبب، فالعبد يفعل هذا الفعل وهو مختار في فعله، وفعله خلق لله سبحانه وتعالى.
هذه الصورة وهي أن مشيئة العبد ضمن مشيئة الله، وقدرة العبد داخل قدرة الله، وأنه لا يقدر بدون ما يقدره الله عز وجل، وأنه لا يشاء بدون ما يشاء الله عز وجل له هذه الصورة لم يتصورها أهل البدع، بل تصوروا إما أن العبد مخلوق لله فلا يكون له أي إرادة ولا أي قدرة، ولهذا قالوا بأنه مجبور.
أو أن الله عز وجل ليس له أي علاقة بفعل العبد، فالعبد مختار كما يشاء، والعبد يخلق فعل نفسه، كما قالت المعتزلة، ولم يستطيعوا الجمع بينهما.
الأشعرية حاولوا الجمع، ولكنها كانت محاولة فاشلة؛ لأنها لا تستند إلى النصوص الشرعية.
فنحن عندنا نصوص كثيرة تدل على أن الله عز وجل خالق لأفعال العباد، مثل قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦].
فما يعمله العبد مخلوق لله سبحانه وتعالى أيضاً، لأن العبد مخلوق لله عز وجل، ومشيئة العبد ضمن مشيئة الله، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:٢٩] وهكذا.
هذه النصوص فهمها السلف على نحو ما تقدم في الجمع بين فعل العبد وفعل الله سبحانه وتعالى.
أما الأشعرية فإنهم جاءوا وقالوا: إن الله عز وجل خالق لأفعال العباد، والعبد ليس له إلا اسم الفعل فقط، وأما حقيقة الفعل فهو لله، والتشبيه الذي شبه به البغدادي في أصول الدين يقول: مثل علاقة قدرة الله بقدرة العبد مثل إنسان عنده صخرة كبيرة ومعه صبي، وهذا الإنسان حمل هذه الصخرة، والصبي سانده في الحمل، فلو أن هذا الإنسان لم يحمل هذه الصخرة عن الصبي ما استطاع الصبي لوحده أن يحملها، ومع هذا هو مشارك في الفعل؛ لأنه وضع يده عليها.
فيقولون: إن فعل العبد مثل الصخرة، والفاعل الحقيقي هو الله عز وجل، والعبد بمثابة المساند لهذا الفعل، فله اسم الفعل.
ومن المسائل المشهورة: أن الإنسان يحاسب على فعله وينسب إليه الفعل، ولو كان ليس هو الفاعل كيف ينسب إليه؟ ولهذا يضاف الكسب إلى العبد (بما كسبتم) هذه كثيرة في القرآن ((بما كسبت يداك)) وإضافة الفعل إلى العبد، مثلاً عندما تضاف إلى العباد أعمالهم هذه كلها أدلة على أن هذه الأفعال للعباد، وأنهم قادرون على فعلها أو تركها، ولكنها ضمن قدرة الله عز وجل العامة الشاملة.
ولهذا تبحث هذه المسائل ضمن الصفات أيضاً؛ لأن مراتب القدر كلها من الصفات.
قال رحمه الله: [ومن صفات الله تعالى: أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم ما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه].
ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم تذنبوا لأتى الله عز وجل بأقوام يذنبون ويستغفرون فيغفر الله عز وجل لهم).
قال رحمه الله: [خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال الله تعالى