[الاحتجاج بالقدر وبيان احتجاج آدم وموسى]
هذه المسألة سبق أن بيناها، وهي مسألة الاحتجاج بالقدر، وقلنا: إن الاحتجاج بالقدر إذا كان على المصائب الفائتة فإنه يجوز، ويدل عليه حديث احتجاج آدم وموسى، وهو حديث طويل تشعب الناس في فهمه، وأخطأ كثير في فهمه مع أنهم من أهل السنة.
ولهذا يربط شيخ الإسلام رحمه الله بين التشعب في فهم حديث احتجاج آدم وموسى بالتشعب الوارد في فهم حديث الفطرة، وأن كثيراً من الناس عندما أرادوا تفسير الفطرة فسروها بمعنى مخالف للمعنى الشرعي؛ للهروب من بعض أقوال المبتدعة؛ لأن القدرية احتجوا بحديث الفطرة، مع أنه في الحقيقة لا حجة لهم فيه، فقالوا: إن العبد يولد على الفطرة، فمعنى هذا أنه ليس هناك قدر سابق.
فأراد البعض أن ينفي هذا الفهم، ففسر حديث الفطرة تفسيراً يخالف حقيقة معناه، فقالوا: إن الفطرة المقصود بها القدر، وقوله: (كل مولود يولد على الفطرة) يعني: يولد على ما كتبه الله عز وجل عليه سابقاً، مع أن المقصود بالفطرة ليس هو القدر، وإنما الفطرة هي الخلقة التي خلق الله عز وجل عليها الإنسان، من معرفته بربه سبحانه وتعالى، وإرادته لتوحيده، ولهذا أضيفت الفطرة، فقال: فطرة الإسلام.
لكن لما احتج القدرية بهذا الحديث أراد بعض العلماء أن يدفع هذا الفهم من احتجاج القدرية بهذا الحديث، ففسر الفطرة بمعنى مخالف للمعنى الشرعي، فقال: إن الفطرة هي القدر، وعندما تجمع أقوال العلماء في مفهوم الفطرة تجد أن من العلماء من يفسر الفطرة بأنها القدر.
وهناك نصوص منقولة عن الإمام أحمد رحمه الله، وعن عدد من العلماء يفسرون الفطرة بالقدر.
والحقيقة: أنه يمكن أن ندفع شبهة القدرية عن حديث الفطرة، ونفسر الفطرة تفسيراً صحيحاً، فنقول: إن القدرية الذين استدلوا بحديث الفطرة على نفي كتابة الله عز وجل، ومشيئة الله عز وجل، وخلق الله لأفعال العباد؛ نقول: إن هذا الحديث فيه ما يدل على الرد على القدرية؛ لأنه قال: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) مع أن القدرية لا يقولون بذلك، فيمكن الرد عليهم بدون أن نفسر الفطرة بمعنى مخالف للمعنى الصحيح لها.
وكذلك الحال وقع في حديث احتجاج آدم وموسى، وهو في صحيح البخاري ومسلم: (أن موسى عليه السلام لقي آدم وقال: يا آدم! أنت أبونا) وفي بعض الألفاظ قال: (خيبتنا وأخرجتنا من الجنة بمعصيتك) فموسى يلوم آدم على أنه أخرجه من الجنة، ولا يلومه على فعل المعصية بعد أن تاب منها، فحاشا موسى النبي صاحب الفقه أن يلومه على شيء قد تاب الله عز وجل عليه منه، وإنما يلومه على المصيبة التي حصلت، وهي الإخراج من الجنة.
فرد عليه آدم وقال: (أنت موسى كلمك الله عز وجل، وخط لك التوراة بيده، ألم تقرأ فيها أن الله عز وجل قد كتب علي ذلك قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى).
فالاحتجاج الذي حصل من آدم كان على المصيبة التي حصلت، وهي الخروج من الجنة، فاحتج آدم على هذه المصيبة بأن هذا أمر مكتوب عليه، متى احتج؟ بعد أن حصلت المصيبة ووقعت.
فالاحتجاج بالقدر على المصائب التي وقعت جائز، كشخص معه سيارة فصدم بها وتكسرت أعضاؤه، فجاء بعض الناس يلومونه، فيحق له أن يحتج بالقدر ويقول: هذا أمر كتبه الله عز وجل علي، لكن قبل أن يرتطم بشيء من الأشياء، قال: الله كتبها علي، ثم ارتطم، فهذا احتجاج غير صحيح.
فالاحتجاج بالقدر على المصائب جائز، لكن على المعائب والذنوب لا يجوز، لعدة أمور: الأمر الأول: أنه ليس هناك دليل يدل فعلاً على أنه مكتوب عليه؛ لأنه إلى الآن لم يفعله، وهو قادر على تركه.
الأمر الثاني: أنه نسب إلى علم الله وكتابه السابق شيئاً ليس عنده علم به، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:٣٦].
الأمر الثالث: أن من يحتج بالقدر على الذنوب قبل أن يفعلها ليس محتجاً بالقدر، وإنما هو محتج بإرادة نفسه.
الأمر الرابع: أنه لو قيل له إنه يراد قتله، أو ضربه، أو إتلاف أي عضو فيه لهرب، ولو كان يحتج بالقدر لرضي بذلك.
ولهذا قيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيء إليه بسارق، فقال: سرقت بقدر الله، قال: ونحن نقطع يدك بقدر الله! ويروى عن عبد القادر الجيلاني أنه قال: فتحت لي في القدر روزنة: نحن نواجه قدر الله عز وجل بقدر الله.
يعني: قدر الله عز وجل وجود الأسباب، سواء الأسباب المحرمة مثل الكفر والذنوب والمعاصي وغيرها، أو الأسباب الطبيعية المؤذية للإنسان يجب أن يواجهها الإنسان بقدر الله.
فالكفر يواجهه بالهداية والإيمان والتقوى ولا يقبله، والأسباب الطبيعية مثل البرد يواجهها بالدفء، والأمراض بالدواء، وهذا هو الفقه السليم لموضوع الإيمان بالقدر.
بل إن أحد الكتاب الغربيي