[التفويض في الصفات]
في الدرس السابق تحدثنا في باب الأسماء والصفات عن القاعدة العامة للسلف الصالح رضوان الله عليهم في باب صفات الله سبحانه، وتوقفنا عند مسألة مهمة وهي مسألة التفويض ومعنى التفويض.
فالتفويض عند السلف هو: تفويض الكيفية، وأما المعاني فإنها مفهومة لنا، فلا يصح للإنسان أن يقول: نفوض المعنى، فمعاني صفات الله عز وجل هي المعاني المأخوذة من لغة العرب، وهي المعاني التي يوصل إليها الكلام الموجود في القرآن أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الكيفية فإنه لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ولم يعلمنا بكيفية صفاته سبحانه وتعالى.
وصفات الله عز وجل لها كيفيات معينة، لكننا نجهل هذه الكيفيات ولا نعرفها، ولم يخبرنا الله سبحانه وتعالى عنها، بل هي من الغيب بالنسبة لنا.
وصفات الله سبحانه وتعالى الواردة في القرآن والسنة لها معانٍ تفهم من خلال السياق العام للقرآن، ومن خلال السياق العام لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وينتفع الإنسان بما تتضمنه من المعاني والآداب، وما تحث عليه من الأخلاق ونحو ذلك، وصفات الله عز وجل تتضمن كثيراً من الآداب، وكثيراً من الأخلاق، وكثيراً من المعاني العظيمة.
ولهذا فالسلف رضوان الله عليهم كانوا يثبتون أسماء الله وصفاته؛ لأن الله أثبتها لنفسه، ثم ينتفعون بما فيها من المعاني، وسبق أن أشرنا إلى قصة لقيط بن صبرة رضي الله عنه عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، فقال لقيط: يا رسول الله! أو يضحك الرب؟ قال: نعم، قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً)، لم تدر في ذهن لقيط الشبهات التي جاءت عند المتأخرين، وإنما استفاد منها لقيط فائدة عظيمة دفعته إلى عمل من أعظم أعمال القلوب وهو الرجاء، لكن لما وجدت الفرق الضالة مثل المعطلة والمفوضة الذين يعطلون صفات الله سبحانه وتعالى، ويؤولون معانيها إلى معان أخرى خارجة عن مدلول النصوص اقتضى ذلك أن تصحح العقيدة مما شابها من الانحرافات التي حصلت عند هذه الفرق.
ومن هنا فنحن نناقش الفرق الضالة في هذه المسألة من هذا الباب، فصفات الله سبحانه وتعالى نفهم معانيها، وهذا هو مقتضى كون القرآن شفاء للناس، وقد وصف الله عز وجل القرآن بأكثر من ثلاثين وصفاً، كما ذكر ذلك السيوطي في (الإتقان)، فوصفه بأنه شفاء ونور وهدى وروح، ولا يوصف بهذه الأوصاف إلا لأن معانيه واضحة، وتدعو إلى هذه الحقائق.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:٥٢]، قال ابن أبي العز الحنفي في (شرح الطحاوية): سماه الله عز وجل ((رُوحًا)) لأن الحياة الحقيقية تتوقف على هذا القرآن، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢].
وسماه بياناً، والبيان معناه الأمر الواضح البين، وقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:١٧]، فهو ميسر من حيث حفظ ألفاظه، ومن حيث إن معانيه واضحة، فيمكن للإنسان أن يستفيد منها، ولو كانت صفات الله عز وجل لا نعرف لها معنىً كما تقول ذلك المفوضة لكان هذا القرآن ألغازاً وأحاجي لا يمكن أن يفهم له معنىً.
وهذا بعيد عن كلام الله عز وجل، فهذا القرآن أنزله الله هدىً للناس، وأنزله الله عز وجل مرشداً لهم، ومعلماً لهم، وأنزله الله عز وجل من أجل أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، فلا يمكن أن يكون غامض المعاني، نعم قد توجد هناك بعض الآيات في معناها غموض لكن القاعدة الشرعية أن كل آية لا يفهم الإنسان معناها بشكل دقيق فيردها إلى المحكم.
وهذا هو معنى المحكم والمتشابه، فالمحكم هو الأمر الواضح، والمتشابه هو الأمر الغامض، ولا يعني هذا أن الأمر الغامض لا يمكن أن يفهم، فيمكن أن يفهم لكن برده إلى المحكم، وبرده إلى ما يشبهه من النصوص الواضحة والبينة، وقد سبق أن أشرت إلى أن شيخ الإسلام رحمه الله فصل في هذا بصورة كبيرة في كتابه (الإكليل في المتشابه والتأويل)، وسبق أن أشرنا إلى أن التأويل يأتي بمعنيين شرعيين، ومعنىً بدعي.
فأما المعنيان الشرعيان فهما: الأول: حقيقة الشيء وما يئول إليه، والمعنى الثاني: التفسير.
وأما المعنى البدعي فهو المشهور عند علماء الكلام، وهو: صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى مرجوح لقرينة، وهذا لا شك أنه تغيير وتبديل وتحريف لكلام الله سبحانه وتعالى.
وأما المفوضة فهم يتفقون مع المؤولة -كما سبق أن أشرنا- في أنهم فرغوا النصوص الشرعية من مدلولاتها الصحيحة، ثم اختلفوا هل تفسر هذه الألفاظ التي بين أيديهم بتأويل يجتهدون فيه؟ أو يبقونها ألفاظاً مجردة لا معاني لها؟ فقال بالأول: