نبدأ أولاً (بحائية ابن أبي داود) قال: [ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا فكلهم يعصي وذو العرش يصفح] وقوله: (ولا تكفرن أهل الصلاة) يعني: أنه لا يجوز للإنسان أن يكفر أهل القبلة الذين يصلون، فإن المصلي ومن يظهر الإسلام لا يجوز للإنسان أن يكفره إلا ببينة وبيقين، فالتكفير حكم شرعي لا يجوز للإنسان أن يستعجل فيه، ولا يجوز للإنسان أن يطلقه في غير محله، وهناك قضايا ينبغي أن ندركها فيما يتعلق بالتكفير: أولاً: أن التكفير -كما قلت- حكم شرعي، ولا يجوز للإنسان أن يتكلم فيه إلا بعلم؛ لأنه جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما) يعني: إما أن تقع على هذا الإنسان الذي قيل له: يا كافر، وإما أن ترجع إلى صاحبها فتقع عليه والعياذ بالله.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يحتاط لدينه، وأن يبتعد عن تكفير الناس بغير بينة، وألا يكون شغله الشاغل هو الكلام في التكفير.
الأمر الثاني: أن يحرص الإنسان على تعلم الأحكام الشرعية، وأن يشتغل بطلب العلم بدل أن يشتغل بتكفير الناس، فإن تكفير الناس ليس فيه مصلحة ولا فائدة، إلا إذا وقع الكفر في حياة الناس، فإنه يجب التحذير من هذا الكفر، ويجب إصلاح المجتمع، أما الحكم على الأفراد، فهذا يختلف من فرد إلى فرد ومن حالة إلى حالة، ولسنا مطالبين بالحكم على الأشخاص، وفي يوم القيامة لن يحاسبك الله على أنك لم تحكم على فلان بأنه كافر، إلا إذا كان قد وقع في الكفر حقيقة وحكمت أنت بإسلامه؛ لأنه ليس مطلوباً من الإنسان أن يستعرض الناس شخصاً شخصاً ثم يطلق ويقول: هذا مسلم وهذا كافر وهذا منافق وهذا ضال، وهذا كذا، ليس هذا مطلوباً من الإنسان، وليس هو من الأحكام التكليفية أصلاً بالنسبة للأفراد، ولهذا ينبغي أن يكون الإنسان حريصاً على دينه، ويبتعد عن هذه القضايا.
الأمر الثالث: من القواعد المتعلقة بالتكفير أن الإنسان لا يجوز له أن يكفر من ثبت إسلامه بيقين، ما دام أن هناك محملاً يمكن أن يحمل عليه كلامه، فمثلاً: موضوع مثل موضوع التعاون مع الكفار على المسلمين كفر بدون شك، لكن هل يعني هذا أن كل من وقع منه ذلك يكون كافراً خارجاً عن الإسلام؟ لا، ليس بالضرورة؛ لأن في بعض الأحيان يكون الفرد الواحد مع ألوف مؤلفة من الجنود والعساكر ونحو ذلك، وقد يقع في هذا المنكر؛ لكنه لم يتبين ولم يفهم هذا الحكم، فلا ينزل عليه حكم التكفير مباشرة، وقد يقع التعاون مع الكفار على المسلمين من مائة ألف شخص، فيكفر مجموعة منهم، ومجموعة لا يكفرون، ولهذا لا يعني إذا وقع الإنسان في أمر من الأمور التي تعتبر كفراً أنه يكون كافراً مباشرة، ولهذا قسم أهل العلم أهل التكفير إلى نوعين: كفر النوع، وكفر العين.
كفر النوع: أن يقال: هذا القول كفر، هذا العمل كفر، هذا الاعتقاد كفر، لكن المعين عندما يفعل شيئاً من الأمور الكفرية؛ فإنه لابد فيه من وجود الشروط وانتفاء الموانع، وأحوال الناس تختلف، فأحياناً قد يشترك عشرة في عمل واحد حكمه في الشرع أنه كفر، ولا يكفر منهم إلا واحد أو اثنان؛ لأنه قد يكون عند فلان مانع من الموانع لا يقع منه الكفر، إما أن يكون جاهلاً، أو غير متصور الأمر، أو ضلل، أو كذبوا عليه، أو أفتاه شخص بالباطل، أو نحو ذلك، وهذا لا يعني أنه معذور، فقد وقع في كبيرة من كبائر الذنوب والعياذ بالله، لكن التكفير أمره أكبر وأصعب.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يكون حريصاً على دينه، وأن يبتعد عن التكفير الذي يكون بالجملة، عندما يكفر الإنسان بلداً بأكمله، أو يكفر مجموعة بأكملها، أو يكفر جيشاً بأكمله، هذا غير صحيح، وهذا من الغلو، ولا يعني هذا أن فعلهم وتصرفهم صحيح، فإنهم وقعوا كما قلت في كبيرة من كبائر الذنوب، لكن قد لا يكفر شخص وتكون عليه آثام عظيمة، وفلان من الناس الذي عرف حقيقة الأمر قد يكفر، مع أنه اشترك هو وشخص آخر في عمل واحد.
إذاً: ما دام هناك مجال أن يتأول الإنسان لشخص من الأشخاص، فإنه ينبغي للإنسان ألا يكفر؛ لأن هناك قاعدة ذهبية عظيمة وهي: أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، عندما تخطئ أنت فتقول: إن فلاناً مسلم؛ لأن الأصل أنه نطق الشهادتين وصلى وصام وحج، فخطؤك هنا أخف من خطئك عندما تكفره، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على البعد عن تكفير المعينين، وأن ينظر إلى كلام أهل العلم، وأن يستفيد من أهل العلم، فقوله:(ولا تكفرن أهل الصلاة) يعني: أهل القبلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا)، فإذا كان الإنسان من أهل القبلة فالأصل فيه أنه من المسلمين، وإذا كان يقول: لا إله إلا الله، ويعمل بأعمال الإسلام بشكل عام، فالأصل فيه أنه من المسلمين، وإذا ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام فإنه ينظر في حاله، فإن كان له معذرة، فإنه يعذر ويحذر أشد التحذير من هذا العمل.