ومن الأحاديث المشهورة في دلائل النبوة حديث ابن عباس في قصة هرقل، وهذا الحديث في كتاب بدء الوحي في صحيح البخاري: عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم برسالة إلى هرقل، واستدعى هرقل أبا سفيان ومن كان معه من العرب، وجاء بالترجمان وقال: من أقربهم منه نسباً؟ يعني: من محمد صلى الله عليه وسلم، فأشاروا إلى أبي سفيان فقدمه وجعل البقية خلفه، وأمرهم أن يكذبوه إذا كذب، يقول أبو سفيان: ولولا الحياء لكذبت، لكنه لم يستطع الكذب خشية أن يحفظوا عنه كذباً، وكان العرب يعتبرون الكذب عيباً في الرجل، فسأله عن حقيقة هذا النبي، وسأله عن شخصية النبي هل له أحد من أقاربه كان ملكاً، هل هو شخص يريد الغنى والمال، ما هو موضوع دعوته، إلى أي شيء يدعو، وسأله عن أتباعه منهم، وسأله هل يرجع أحد من أتباعه عن دينه.
ثم استنتج من هذه الأسئلة الكثيرة أن هذا الرجل نبي، وقال: إن صدقتم فيما قلتم فسيملك موطن قدمي هاتين، ولو أني طمعت في أن أخلص إليه لغسلت عن قدميه وشربت مرقتها.
فهو يعرف أنه نبي، حتى إنه عندما خرج أبو سفيان جمع هرقل وزراءه في دسكرة واحدة، وأطل عليهم من الشرفة، وقال: هل لكم في الفلاح هل لكم في النجاح؛ إنه رسول الله! فحاص الروم كما تحوص الحمر، واتجهوا إلى الأبواب فوجدوها مغلقة، فلما يئس من الإسلام قال: ردوهم علي، ثم قال: إنما كنت أختبر التزامكم بدينكم، فقال أبو سفيان: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- إنه يخافه عظماء الروم، فنلاحظ أن دلائل النبوة واسعة جداً.
ومن أبرز دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يدعو إلى شيء شخصي، لم يدعو إلى مجد لذاته، ولم يدع إلى مال، ولم يدع لكسب دنيوي، وإنما كان يدعو إلى الله عز وجل، ويأمرهم بإفراد الله العبادة، وفضائل الأعمال والأخلاق.
ومن أبرز دلائل نبوته المعجزات الثابتة، مثل الإسراء والمعراج وانشقاق القمر، وكانت تكلمه الأشجار والحصى، ومنها أمور أنه عندما انقطعت بهم المياه أدخل يده فأصبح الماء ينبع من بين أصابعه، حتى إنهم توضئوا وشربوا من الماء جميعاً، وكان عددهم ألفاً وخمسمائة.
ومن دلائل نبوته إخباره عن المغيبات، فقد أخبر عن أمور غيبية ستقع، ومن ذلك أنه أخبر أن دين الإسلام سيظهر، وسيكون لهُ ملكٌ عظيم، وسيكون له مكان كبير في الأرض، وحصل فعلاً، فسيطر المسلمون على أكثر من نصف الكرة الأرضية، واستطاعوا أن يؤثروا تأثيراً كبيراً في سائر الأمم، وكان لهم مجد عظيم.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كسرى سيهزم، وأن الله سيمزق ملكه، وفعلاً مزق الله ملكه في زمن عمر بن الخطاب، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العلاقة بـ كسرى قال:(كسرى نطحة -أو قال: الفرس نطحة أو نطحتان، ولكن الروم ذوات قرون كلما هلك قرن خلفه قرن آخر)، وفعلاً وقع هذا، فالأكاسرة ودين الفرس تمزق تماماً، ولم يعد له وجود، بينما الرومان لم يسقط الصحابة ملكهم بالكلية، وإنما أخذوا كثيراً من المستعمرات التي كانوا يستعمرونها، مثل بلاد الشام ومنطقة الروم التي هي آسيا الوسطى كما يسمونها الآن، وجنوب البحر المتوسط جميعاً، ودخلوا إلى أن وصلوا إلى الأندلس، وكلما هزم جيل من الرومان جاء جيل آخر، وأنتم تلاحظون أن المعركة الآن بيننا وبين الروم، والروم هم النصارى، الذين لهم سطوة ولهم صولة في العالم في هذا الزمان.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سينتشر في الأمة الزنا، وسينتشر في الأمة شرب الخمر، وسينتشر في الأمة أكل الحرام، وأخبر أيضاً عن حقائق في القرآن، والقرآن نفسه أكبر معجزة تثبت نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا القرآن أولاً لم يستطع أحد أن يحاكيه في بلاغته، فالعرب مع قدراتهم ومع بلاغتهم الواسعة، ومع إمكانياتهم الرهيبة في المنطق إلا أنهم ما استطاعوا أن يحاكوا هذا القرآن، ولهذا تحداهم الله عز وجل أن يأتوا بمثله، وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور، وتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله، فهم لم يستطيعوا الإتيان بشيء من ذلك، بل لم يتجرءوا ويحاولوا ولو محاولة واحدة؛ لأن العرب قديماً كانوا أصحاب فطنة لم يكونوا عابثين، يعني: لا يأتي الواحد منهم فيحاول أن يعبث ويحاكي فيضحك الناس عليه، وأبرز من حاول أن يحاكي القرآن هو مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، فبين الله عز وجل كذب دعواه في سلوكه، فقد جيء له برجل مرمود عينه، وسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم بصق في عين علي بن أبي طالب وشفاه الله عز وجل، فبصق مسيلمة في عين هذا المسكين فأعماه الله، وأيضاً سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم بصق في بئر ماؤها غائر، فنبع ماؤها من جديد، فجاء مسيلمة إلى بئر كان فيها ماء قليل، فبصق في