[موقف أهل السنة تجاه الفتن التي وقعت في عهد الصحابة وما روي في ذلك]
قال رحمه الله: [ويمسكون عما شجر بين الصحابة].
سبق أن علقنا على هذه القضية، والآن يرتب ابن تيمية الأدلة والأخبار التي وردت فيما شجر بين الصحابة، فيبين أن بعضها كذب وأن بعضها ثابت في الأصل لكن زيد فيه ونقص منه، وأن بعضها صحيح لكنهم معذورون فيه لاجتهادهم، أو ما وقع منهم من خطأ فإنه يذهب في بحار حسناتهم.
قال رحمه الله: [ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما كذب، ومنها ما هو قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة].
يعني: يجوز أن يقع الصحابي في الذنوب في الجملة لكنه قد يتوب، وقد يغفر الله عز وجل له لجهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم، فليسوا معصومين إلا إذا أجمعوا، لأنهم لا يجتمعون على ضلالة.
قال رحمه الله: [ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر].
ولهذا فإن العلماء ألفوا كتباً كثيرة في مناقب الصحابة وفضائلهم، ولما ألف البخاري الصحيح كتب كتاباً خاصاً بالمناقب، فيذكرون مناقب الصحبة ويثنون عليهم كثيراً.
قال رحمه الله: [حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات مما ليس لمن بعدهم].
وأيضاً الحسنة التي يعملونها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هي أفضل من الحسنة التي يعملها من بعده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي! فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وهذا يدل على أن صدقة الصحابة أفضل بلا شك من صدقة غيرهم؛ لأنها حصلت في وقت عوز وشدة، وكانت في رفع راية الإسلام وفي نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذا ليس متحققاً في من بعدهم.
قال رحمه الله: [وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني)، وهذا يدل على أن خير الناس بعد الأنبياء مطلقاً هم الصحابة، فانظروا هذه المنزلة العالية، وانظروا إلى هؤلاء المجرمين الذين يشتمون الصحابة ويذمونهم عليهم من الله ما يستحقون.
قال رحمه الله: [ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلى ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور].
انظروا الكلام الذي عليه مشكاة النبوة فعلاً، وعليه نور واضح، فمن يذم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو يقدح فيهم أو يكفرهم فمعنى هذا أنه يقدح في النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فالشيعة المجرمون يقولون: إن الصحابة ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة أو أربعة، وهم الذين نقلوا شريعته، وهم الذين جاهدوا وفتحوا العراق وبلاد الشام حتى وصلت الفتوحات إلى كل مكان شرقاً وغرباً، بل إن الشيعة هم المرتدون في الحقيقة عليهم من الله ما يستحقون، وقبحهم الله! قال رحمه الله: [ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله].
اللهم صلِّ على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، ونسأل الله عز وجل أن يغفر لأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله عز وجل أن يجمعنا وإياكم بهم في مستقر رحمته إنه على كل شيء قدير