[أخذ العلم عن علماء أهل السنة والحذر من المبتدعة]
ينبغي لطالب العلم أن لا يدرس إلا على صاحب سنة، وأن يبتعد عن التلقي عن أهل البدع، وأن يجتهد في أن تكون دراسته -خصوصاً في مسألة العقائد وما له من ارتباط بها- على يد صاحب عقيدة صحيحة، فإن المبتدعة يجب على المسلمين هجرهم والتحذير مما هم فيه من البدع المضلة؛ لأن البدع أخطر من المعاصي.
فصاحب المعصية يدفعه الهوى والشهوة لفعل المعصية، وهو يعلم أن هذه معصية، ولهذا إذا وعظ وذكر بالله عز وجل فإنه يعود، فهو لا يتخذ معصيته ديناً، بينما صاحب البدعة يظن أن البدعة التي هو عليها -سواء في باب العقائد أو الأعمال- من الدين، فتكمن الخطورة عندما ينسب الإنسان شيئاً إلى دين الله عز وجل، ويشرع فيه ما ليس منه، ولهذا جاء في الحديث الذي روي مرفوعاً وروي عن بعض السلف من أقوالهم: (أن الله عز وجل لا يقبل توبة صاحب بدعة)، وهذا الحديث له معنيان: المعنى الأول: أن صاحب البدعة لا يقبل الله منه هذه التوبة، فيكون هذا الحديث من أحاديث الوعيد العامة.
والمعنى الثاني: ما أشار إليه الشاطبي رحمه الله في الاعتصام، وهو أن صاحب البدعة لا يمكن أن يتوب من بدعته؛ لأنه يعتقد أنها دين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [التلقي عن المبتدع: وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وقرأت بخط الشيخ الموفق قال: سمعنا درسه -أي: ابن أبي عصرون - مع أخي أبي عمر وانقطعنا، فسمعت أخي يقول: دخلت عليه بعدُ، فقال: لم انقطعتم عني؟ قلت: إن ناساً يقولون إنك أشعري، فقال: والله ما أنا أشعري، هذا معنى الحكاية.
انتهى.
وعن مالك رحمه الله تعالى قال: لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به.
فيا أيها الطالب إذا كنت في السعة والاختيار فلا تأخذ عن مبتدع: رافضي أو خارجي أو مرجئ أو قدري أو قبوري وهكذا، فإنك لن تبلغ مبلغ الرجال صحيح العقد في الدين متين الاتصال بالله، صحيح النظر، تقفو الأثر -إلا بهجر المبتدعة وبدعهم، وكتب السير والاعتصام بالسنة حافلة بإجهاز أهل السنة على البدعة، ومنابذة المبتدعة والابتعاد عنهم، كما يبتعد السليم عن الأجرب المريض، ولهم قصص وواقعات يطول شرحها، لكن يطيب لي الإشارة إلى رءوس المقيدات فيها، فقد كان السلف رحمهم الله تعالى يحتسبون الاستخفاف بهم وتحقيرهم، ورفض المبتدع وبدعته، ويحذَّرون من مخالطتهم ومشاورتهم ومؤاكلتهم، فلا تتوارى نار سني ومبتدع.
وكان من السلف من لا يصلي على جنازة مبتدع فينصرف، وقد شوهد من العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم المتوفى سنة ألف وثلاثمائة وتسعة وثمانين من الهجرة رحمه الله تعالى انصرافه عن الصلاة على مبتدع، وكان من السلف من ينهى عن الصلاة خلفهم، وينهى عن حكاية بدعهم؛ لأن القلوب ضعيفة والشبه خطافة.
وكان سهل بن عبد الله التستري لا يرى إباحة الأكل من الميتة للمبتدع عند الاضطرار؛ لأنه باغٍ؛ لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة:١٧٣] الآية، فهو باغٍ ببدعته، وكانوا يطردونهم من مجالسهم، كما في قصة الإمام مالك رحمه الله تعالى مع من سأله عن كيفية الاستواء، وفيه بعد جوابه المشهور: أظنك صاحب بدعة، وأمر به فأخرج].
كل هذه الأخبار وما سيأتي نقله هو في بيان أهمية الدراسة على صاحب السنة والحذر من الرواية والدراسة وتعظيم أصحاب البدع، فإن أصحاب البدع إذا عُظِّموا وصارت لهم مكانة ومنزلة في الأمة، فإن الناس سيأخذون عن هؤلاء، وإذا أخذوا عنهم فإنهم قد يتعرضون والعياذ بالله للعقائد المنحرفة الضالة التي عندهم.
ولا شك أن البدع ليست على مستوىً واحد، فهناك بدع مكفرة وبدع غير مكفرة، وهناك بدع مغلظة وبدع أخف منها، وهناك بدع في الاعتقاد، وهناك بدع في الأعمال، وهناك بدع مركبة من مجموعة آراء وأفعال بدعية، وهناك بدع ليست مركبة وإنما هي بدعة واحدة، فهي ليست على مستوى واحد، وقد جعل الله لكل شيء قدراً.
فإذا كان الإنسان يتعامل مع مبتدع بدعته كفرية، فإنه سيختلف عن معاملته مع مبتدع بدعته ليست كفرية، وهكذا بالنسبة للمغلظة، وهكذا بالنسبة للبدع في الاعتقاد والعمل، وهكذا بالنسبة للبدع المركبة وغيرها؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يكون محتاطاً في دينه وفي تعامله، فلكل هذه المسائل ضوابط ينبغي على الإنسان أن يدركها وأن يحرص عليها، والسبب في هجر المبتدع والتحذير منه هو ألا تنتشر بدعته، فإن البدع كالسرطان، إذا تُرِكَت في الأمة فإنها تنتشر أكثر وأكثر حتى تفتك بها.
وقد مرت على المسلمين فترة غابت فيها السنة عن الناس، إلى درجة أن صاحب السنة أصبح غريباً بسنته، وأصبحت البدعة جزءاً من كيان المجتمع، وأصبح الناس يمارسونها على أنها جزء من الدين، فلم يكونوا يعرفون من العقائد إلا عقائد الأشعرية، وكذلك مر على المسلمين فترة