قال المصنف رحمه الله:[الأمر السادس: القناعة والزهادة: التحلي بالقناعة والزهادة، وحقيقة الزهد الزهد في الحرام، والابتعاد عن حماه بالكف عن المشتبهات، وعن التطلع إلى ما في أيدي الناس].
هذه حقيقة الزهد، إذاً فالزهد ليس بلبس الثوب الخشن، وليس الزهد بالتقلل من الأكل، وليس الزهد في الظاهر فقط، وإنما أساس الزهد زهد القلب، فإن الإنسان إذا كان قلبه غير معلق بالدنيا فإن هذا من أعظم الزهد.
وقد مرت على الأمة فترة من الفترات ظن الكثير أن الزهد يتعلق بالظاهر، فإذا لبس الإنسان ثوباً خشناً، أو كان الإنسان بعيداً عن الملابس الغالية أو الأشياء الغالية في بيته أو في أي مكان اعتبروا ذلك من الزهد، وهذا مظهر وليس بأساس في الزهد ولا في حقيقة الزهد، فحقيقة الزهد هو زهد القلب، فإذا زهد القلب في الحرام فإنه يترتب عليه عدم التعلق بالدنيا.
وقد كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ عبد الرحمن بن عوف من الأموال ما يفرق بالفئوس، لكنه كان في أيديهم وليس في قلوبهم، ولما توفي طلحة بن عبيد الله كما ذكر الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء) كان لديه أكثر من ألفي ألف دينار من الذهب، يعني: مليونين، وكان له بستان كبير في الطائف، لكن مع هذا لم تشغلهم هذه الأموال عن الدعوة إلى الله، وعن الإصلاح، وعن تعلم العلم، وعن نشر الخير بين الناس، وعن الجهاد في سبيل الله، فقد كان هؤلاء -وهم تجار الصحابة- في أوائل الصفوف دائماً في الجهاد في سبيل الله.
وكان عبد الله بن المبارك من تجار العلماء، وكان رحمه الله دائماً يجاهد في سبيل الله، حتى إنه كتب قصيدة مشهورة إلى الفضيل بن عياض يقول فيها: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب ثم يقول: من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب فهذا رجل تاجر ومع هذا يشارك في القتال، فاحتمال قتله واحتمال استشهاده كبير، ومع هذا كان بهذه المثابة.
وهناك كثير من الصالحين في هذا العصر يملكون المليارات من الأموال، ومع هذا خرجوا بأنفسهم وأموالهم يجاهدون في سبيل الله، فهذا هو الزهد الحقيقي، وهو زهد القلب في هذه الدنيا، والشعور بأنها حطام زائل، وأنها ستذهب، ولهذا لا يتعلق بها القلب، وبناءً على هذا سيمتنع عن الحرام، وسيمتنع عن كل ما يغضب الله سبحانه وتعالى.
قال المصنف رحمه الله تعالى:[ويؤثر عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لو أوصى إنسان لأعقل الناس صرف إلى الزهاد].