[من آداب طالب العلم الإعراض عن الهيشات]
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه حلية طالب العلم، في الفصل الأول، في آداب الطالب في نفسه: [الأدب الثاني عشر: الإعراض عن الهيشات: التصون من اللغط والهيشات؛ فإن الغلط تحت اللغط، وهذا ينافي أدب الطلب.
ومن لطيف ما يستحضر هنا ما ذكره صاحب الوسيط في أدباء شنقيط، وعنه في معجم المعاجم: أنه وقع نزاع بين قبيلتين، فسعت بينهما قبيلة أخرى في الصلح، فتراضوا بحكم الشرع، وحكموا عالماً؛ فاستظهر قتل أربعة من قبيلة بأربعة قتلوا من القبيلة الأخرى، فقال الشيخ باب بن أحمد: مثل هذا لا قصاص فيه، فقال القاضي: إن هذا لا يوجد في كتاب.
فقال: بل لم يخل منه كتاب، فقال القاضي: هذا القاموس -يعني: أنه يدخل في عموم الكتاب، فتناول صاحب الترجمة القاموس، وأول ما وقع نظره عليه: (والهيشة الفتنة وأم حبين، وليس في الهيشات قود)، أي: في القتيل في الفتنة لا يدرى قاتله، فتعجب الناس من مثل هذا الاستحضار في ذلك الموقف الحرج.
انتهى ملخصاً].
خلاصة هذا الأدب: أن طالب العلم ينبغي عليه أن يصون نفسه عن اللغط، وأن يصون نفسه عما لا ثمرة فيه ولا فائدة، فإنه لا يليق بطالب العلم أن يكون من أهل السفه الذين يدخلون في المضاربات والمشاكسات واللغط والسب والشتم، وأن يكون خراجاً ولاجاً في مخافر الشرط بسبب هيشة مع جار له، أو مشكلة مع رجل عند إشارة لا ينبغي أن يكون طالب العلم بهذا المستوى، وإنما ينبغي عليه أن يصون نفسه عن ذلك كله، وأن يرفق بالناس، وأن يكون عاقلاً حكيماً يحسن التعامل مع الناس، فإن الذي لا يجامل الآخرين، ويتعامل معهم على قدر عقولهم سيدخل في مشكلات كثيرة، ومن حكمة الجاهليين ما ورد في كلام زهير بن أبي سلمى في قوله: ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم فينبغي على الإنسان أن يكون حكيماً، ولا يكون كلما وجد سفيهاً من السفهاء صارت بينه وبينه مشكلة، وكلما وجد أحمق من أهل الجهالة صارت بينه وبينه فتنة، وكلما وجد رجلاً بسيطاً في عقله وتصرفه لا يحسن الفهم، ولا يدرك مقاصد الأمور لا يتعامل معه بالطريقة العاقلة في التعامل مع مثل هؤلاء الأشخاص.
والهيشات جمع هيشة، والهيشة الفتنة التي يختلط فيها الناس بعضهم في بعض يتضاربون أو يتقاتلون، وقد يسقط بينهم جريح أو قتيل.
وفي القصة التي أوردها عدة فوائد: الفائدة الأولى: أن القتيل في الهيشة الذي لا يعرف من قاتله لا يصح فيه قود؛ لأنه لا يعرف شخص محدد هو قاتل هذا الشخص، عندما يكون هناك خمسة من جهة وخمسة من جهة يتراشقون إما بالحجارة أو بالسهام أو بالرصاص فيقتل قتيل ولا يعرف من قتله، فربما يكون قتله فلان أو فلان أو فلان، أو ربما قتله أحد أصحابه وحينئذ لا يكون فيه قصاص، وإنما يكون فيه الدية.
الفائدة الثانية: الموقف الذي في قصة هذا العالم باب بن أحمد؛ فإنه أفتى بأنه لا قصاص في مثل هذه الحالة، فقال له القاضي: إن هذا لا يوجد في كتاب.
وهذا زعم مطلق بدون بصيرة من هذا القاضي.
فقال: بل هو موجود في كل كتاب.
أي: سواء كان من كتب الفقه أو اللغة أو غيرها.
فأراد هذا القاضي إحراج هذا العالم، قال: هذا القاموس.
وهو من كتب اللغة للفيروزآبادي شرحه الزبيدي في تاج العروس.
فقال له: هذا كتاب القاموس.
يعني: هات هذا الحكم الفقهي الذي قلته من هذا الكتاب اللغوي.
فماذا عمل؟ اتجه إلى أقرب معنى لغوي يمكن أن يصل إلى فائدة فيه، فوجد كلمة هيشة، فقرأ: أن الهيشة هي الفتنة، وأم حبين.
يعني: تطلق على الفتنة وتطلق على دويبة صغيرة تسمى أم حبين، قال: وليس في الهيشات قود.
وهذه من الفوائد التي في غير مظانها؛ فإن كتاب القاموس في الأصل كتاب لغوي، لكن هنا مسألة فقهية أشار إليها، ولهذا ينبغي على طالب العلم عند قراءته في الكتب أن يسجل لطائف المسائل التي لا توجد في مظانها؛ لتكون من نوادر العلم بالنسبة له.