[التعلق بالدنيا يذهب نور العلم]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل: زلة العالم مضروب لها الطبل.
وعن سفيان رحمه الله تعالى أنه قال: كنت أوتيت فهم القرآن، فلما قبلت الصرة سلبته].
سفيان هو الثوري، وقوله: (كنت أوتيت فهم القرآن) يعني: أعطاني الله عز وجل فهماً في القرآن واستنباطه، مع أن فهم القرآن الفهم الصحيح لا يحده حد؛ لأن كلام الله عز وجل فيه من الكنوز والفوائد والمعاني ما عرفه الناس، وهناك الكثير مما لم يعرف، ولهذا يقول: (أوتيت فهم القرآن) يعني: حسن تدبر القرآن وحسن تنزيل القرآن على المسائل، وعلى أحوال النفس وعلى الناس.
قوله: (فلما قبلت الصرة) هي: الوعاء الذي يكون فيه نقود، ويقصد بذلك أنه لما قبل الصرة من حاكم من حكام زمانه قال: (سلبته) يعني: سلبت هذا الفهم.
وهو يريد رحمه الله أن يبين أن الإنسان إذا كان نزيهاً وبعيداً عن الدخول على السلاطين وبعيداً عن أخذ أعطياتهم، وبعيداً عن مجاملتهم، فإن الله عز وجل يوفقه ويكون أقرب إلى الإخلاص، بينما إذا كان يقبل أعطيات السلاطين وهباتهم فإن هذا يجعل عينه كسيرة عندهم، فإذا رأى منكراً من المنكرات لا يستطيع أن ينكره، وبهذه الطريقة يضعف علمه، ويخفت وهج الإخلاص لديه.
ومسألة الدخول على السلاطين مسألة دقيقة وحساسة وفيها تفصيل، فهي ليست مسألة مطلقة، فلا يقال: لا يصح الدخول على السلطان مطلقاً، أو يصح الدخول مطلقاً، وإنما يختلف الناس باختلاف قدراتهم وإمكاناتهم.
والأصل في ذلك أنه إذا تحققت المصلحة الشرعية واستطاع الإنسان أن يدخل على السلطان وينصحه، ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، مع استخدام الأسلوب الطيب دون مجاملة في حد من حدود الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الوضع كذلك فإنه يجوز له أن يدخل عنده، بينما قد يوجد إنسان لا يتحمل مثل هذه الأشياء، ويخاف على نفسه أنه قد يجامل وقد يداهن في الحق، فمثل هذا لا ينبغي له الدخول.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فاستمسك رحمك الله تعالى بالعروة الوثقى العاصمة من هذه الشوائب؛ بأن تكون مع بذل الجهد في الإخلاص شديد الخوف من نواقضه، عظيم الافتقار والالتجاء إليه سبحانه.
ويؤثر عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قوله: ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي! وعن عمر بن ذر أنه قال لوالده: يا أبي! ما لك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟ فقال: يا بني! ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة.
وفقك الله لرشدك آمين].
المقصود من هذا أن النائحة الثكلى -وهي النائحة التي أصابتها المصيبة- ليست مثل المستأجرة؛ لأن العرب قديماً كانوا يميزون بين العظماء وغير العظماء بأن العظيم هو الذي يكثر عليه البكاء ويشتد عليه النواح، وكلما كثر البكاء دل هذا على عظمته، ومكانته، وعدم استغناء الناس عنه، فكان بعضهم ربما استأجر نساء ينحن على والده أو أخيه أو نحو ذلك، فكان هناك بعض الناس يمتهن مثل هذا العمل، فقد تبكي وهي لا دخل لها بالقضية لا من قريب ولا من بعيد، وإنما تبكي من أجل المال، والناس الذين يأتون من الخارج لا يعرفون من القريبة له ومن المستأجرة.
وعلاقة هذا الموضوع بكلام عمر بن ذر هو أن الإنسان الذي يتكلم وهو يشعر بكلامه يختلف عن الإنسان المستأجر الذي يتكلم من أجل أجرة ودنيا، وهذا نجده حتى على مستوى الخطباء، فتجد الخطيب الذي يتكلم وهو صادق فيما يقول ويتكلم عن حرقة ورغبة في إصلاح الناس ليس مثل الخطيب الذي يتكلم من أجل أن يبقى خطيباً، ومن أجل أن يكون له مكافأة لهذا المسجد أو نحو ذلك.
فالإخلاص ليس له مثل أبداً، فينبغي للإنسان أن ينقب نفسه بشكل مستمر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الثاني: الخصلة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة؛ محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحقيقها بتمحض المتابعة، وقفو الأثر للمعصوم، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١]].
الخصلة الثانية مع الخصلة الأولى هما شرطان في كل عمل من العبادات، يعني: يشترط لها إخلاص النية، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبالجملة؛ فهذان أصل هذه الحلية، ويقعان منها موقع التاج من الحلة].
فيا أيها الطلاب! هأنتم هؤلاء تربعتم للدرس، وتعلقتم بأنفس علق (طلب العلم)، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلانية، فهي العدة، وهى مهبط الفضائل، ومتنزل المحامد، وهي مبعث القوة، ومعراج السمو، والرابط الوثيق على القلوب عن الفتن، فلا تفرطوا].
إذاً النقطة الأولى هي: أن العلم عبادة، وأن العبادة يشترط لها الإخلاص والمتابعة، ومن أعظم الأهداف التي يبارك الله عز وجل بها لطالب العلم أن يبارك له في علمه وفيما يكتبه، مثلاً: هذا الكتاب الصغير الذي كتبه الشيخ بكر أبو زيد أنا أعتقد أنه أفضل من مئات الآلاف من الكتب الموجودة التي نلاحظها في كثير من ال