من الذي يفصل في القضية؟ هل السبب هو كثرة التكفير، وهو أن كثيراً من الناس بدءوا يكفرون؟ سواءً على شكل دول أو على شكل أشخاص أو على شكل مفكرين؟ أم السبب هم هؤلاء الذين نتهمهم بالغلو، فكيف يمكن التمييز بين هذا وبين هذا؟ فلابد أن ننظر إلى هؤلاء الذين يكفرون، ونقول لهم: لماذا أنتم تكفرون؟ قالوا: نحن نكفر لكذا وكذا وكذا وكذا وكذا، فننظر إلى هذه الحيثيات التي يذكرونها من زاوية شرعية، يقولون مثلاً: إن الحكم بغير ما أنزل الله بهذه الطريقة الموجودة الآن، وهي أخذ القانون الفرنسي أو أخذ القانون الأمريكي البريطاني وتطبيقه على الناس، أو أخذ قانون الهوى وتطبيقه على الناس، هذا كفر لا شك فيه.
فلابد من سؤال الشخص الذي يقول: هذا كفر، نقول: هو كفر فعلاً، لكن ما ذنب هذا المسكين؟ هل هو الذي بدل شرع الله؟ لا، فالمفترض أن تنتقد الذي بدل شرع الله، وتنتقد الذي كفر في الحقيقة، ولا تنتقد هذا الذي بين الأحكام؛ ولهذا أحياناً تنتشر الكفريات في المجتمع انتشاراً كبيراً جداً، فإذا ظهر عالم أو طالب علم وبدأ يبين هذه الأحكام لكثرتها في الواقع يجد بعض الناس أن طالب العلم أو الشيخ أو العالم عنده غلو، مع أن الواقع أنه ليس عنده غلو، لكنه يبين الأحكام الشرعية، لكن الواقع مأساوي! عندما ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله اتهمه الناس بالغلو؛ لأن الناس يقفون حول القبور ويذبحون لغير الله، وينذرون لغير الله، فبين أنها كفر، لكنهم كانوا أصحاب زعامات وأصحاب سلطان، وعندهم علماء ومشايخ، وعندهم أموال وجيوش، وعندهم أشياء كبيرة ليست بسيطة، لهذا السبب روجوا دعاية على الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه يكفر المسلمين.
والحقيقة أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يكفر المسلمين، وإنما كَفَّر من وقعوا في الكفر حقيقة، والذي يرجع للرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب يشعر بعمق المأساة التي يعاني منها الشيخ، فمن الرسائل التي يكتبها، يقول: وقد اتهمنا فلان بن فلان بأننا نكفر، وهذا باطل، نحن لا نكفر المسلمين، لكن كثيراً من الناس وقع اليوم في الكفر، فهو يطوف حول القبور، ويستغيث بغير الله، ويطلب من الأولياء أن يدخلوه الجنة، أو أن يخرجوه من النار، وهذا كفر بإجماع المسلمين، ولا شك فيه.
فهذا رجل فاضل من علماء المسلمين ظهر في مجتمع انتشر فيه الكفر، فما هو ذنب هذا العالم؟ والنقاش الحقيقي الصحيح هو أن لا يقال لهذا العالم: لماذا أنت تكفر؟ وإنما يقال له: هل أنت تكفر بمكفرات حقيقية، أم بمكفرات غير حقيقية؟ فإذا كان يكفر بمكفرات حقيقية فهو معذور، والمجتمع السيئ يجب أن يصلح، لكن إذا كان يكفر بسبب معصية من المعاصي، كأن يقول للزاني: أنت كافر، فهذا من الخوارج، ويجب أن يواجه، ويجب أن يرد عليه، وهذا هو الواقع المأساوي الذي نعيشه اليوم.
إذا كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وجد في زمن انتشرت فيه الكفريات مع العوام، كالطواف حول القبور والذبح لغير الله عز جل، فقد كان هناك قرى في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو إمارات لها حكام يدعمون هذا الشرك، وتكلموا على الشيخ واتهموه في دينه، وأنه على عقيدة الخوارج، فهذا هو الواقع الذي يعايشه كثير من الناس اليوم.
أقول: نعم، كثير كفروا باسم الإبداع، وكفروا باسم التنمية كما يسمونها، وكفروا باسم الحرية، وكثير من الحكومات نحت شريعة الله عز وجل فوقعت في الكفر، وهذا الضغط الثقافي والإعلامي والفكري على أهل السنة الذين يبينون حقائق الدين جعلهم يخرجون أمام الناس كمجموعة من الغلاة يكفرون، ويوجد مع الأسف بعض من ينتسب إلى منهج الدعوة الإسلامية سماعون لهم والعياذ بالله، ويوجد فيهم من يتهم أهل العقيدة الصحيحة بأنهم يكفرون، ثم لا يبينون هل هم يكفرون بحق أو باطل؟ وإذا كان باطلاً فما هو هذا الباطل؟ وما هو الحق؟ فالنقاش العلمي الصحيح يكون في المسائل، وليس في موضوع أن هذا يكفر أو لا يكفر، ومع هذا نقول: ينبغي أن يدرك الإنسان أن هناك فرقاً بين كفر الفعل أو النوع والكفر المعين، فأحياناً قد يكون هناك فعل أو قول أو إرادة كفرية في حد ذاتها، لكن المعين المتلبس بها ليس بكافر، لكن ينبغي أن يعرف الإنسان أن هناك شروطاً وموانع في الجاهل والمضلل والمتأول ونحو ذلك، لا يكفر إلا على ضوابط دقيقة وتفصيلية يمكن أن تراجع في مظانها.