قال:[الرابع عشر: التأمل: التحلي بالتأمل، فإن من تأمل أدرك.
وقيل: تأمل تدرك.
وعليه: فتأمل عند التكلم بماذا تتكلم؟ وما هي عائدته؟ وتحرز في العبارة والأداء دون تعنت أو تحذلق، وتأمل عند المذاكرة كيف تختار القالب المناسب للمعنى المراد، وتأمل عند سؤال السائل كيف تتفهم السؤال على وجهه حتى لا يحتمل وجهين، وهكذا].
لا شك أن التأمل من أبرز صفات طالب العلم التي ينبغي عليه أن يربي نفسه عليها، فإن القارئ الذي يقرأ كتاباً ولا يتأمله لن يستفيد منه شيئاً، ومن يحضر درساً ثم لا يتأمل ما فيه من المسائل والفوائد ويسرح ذهنه بعيداً لن يستفيد شيئاً، ولهذا فكثير من الشباب الذين يحبون القراءة ينظرون إلى الكم في القراءة أكثر من نظرتهم إلى الكيف، وإلى مدى الفائدة التي استفادها.
فمثلاً: يأتي شخص ويقول: أنا قرأت سير أعلام النبلاء كاملاً، أو الفتاوى كاملة، لكن قد يكون تأمله فيها قليلاً جداً، والفائدة التي استفادها من هذه القراءة قليلة جداً؛ لأنه يهتم بالقراءة أكثر مما يهتم بالتأمل والتدقيق والاستفادة.
ولهذا ينبغي على طالب العلم أن يتعود على الدقة، وأن يكون دقيقاً في قراءة الكلمات وفهمها دقيقاً أثناء التعبير عن مسألة من المسائل دقيقاً في تصوير المسائل، ولهذا تجد بعض الناس تعودوا على التهويل والمبالغة، فمثلاً: إذا جاء إلى محاضرة فسألته: كم حضر المحاضرة من الناس؟ تختلف تقديرات الناس، بعضهم يقول: حضر ثلاثة آلاف، وبعضهم يقول: حضر عشرون ألفاً، انظر الفرق بين ثلاثة آلاف وعشرين ألفاً مع أن المحاضرة واحدة، فبعضهم يذكر عدداً قليلاً، وبعضهم يذكر عدداً رهيباً كبيراً جداً ويتكلم بهذه الطريقة، وأحسن الناس من تكون نظرته دقيقة موضوعية بعيدة عن التهويل، وبعيدة أيضاً عن تحقير الأمر والتقليل من شأنه، فينبغي أن يتعود الإنسان في حياته العلمية على أن يكون متأملاً دقيقاً موضوعياً في نظرته.
وحتى البادية قديماً كانوا إذا أرسلوا شخصاً من أجل أن يبحث لهم عن أماكن فيها أمطار ثم جاءهم يميزون بين من عندهم دقة وبين الذين يبالغون، فبعض من يرسلونه يقولون له: انظر المكان الفلاني هل فيه عشب -حتى ينتقلون إليه بأغنامهم- فإذا كان من الذين يهولون يقول: أنا رأيت العشب يصل إلى نصف الرجل، يعني: أن العشب مرتفع بشكل غير طبيعي، فيأتون إلى المكان فيجدون أنه ليس كذلك، فيفهمون أن هذا الشخص لا يصلح أن يخبر عن أمر من الأمور، بينما يستعمل غيره عبارة دقيقة في حجم الشيء الذي رآه وفي صورته وكيفيته، ومدى استفادة الآخرين منه.
ولهذا ينبغي على الإنسان أن يعود نفسه على أن يكون دقيقاً موضوعياً في عبارته وكلامه وفهمه وقراءته لكلام الآخرين.
ولو رجعتم إلى مثل الشيخ محمد بن عثيمين في الكتب التي كان يؤلفها بيده، لوجدتم أن كلامه لا يمكن أن تحذف منه حرفاً واحداً، لأنه ليس فيه حشو ولا زيادة، وليس فيه شيء لا داعي له، حتى الأحرف والكلمات الصغيرة لها داعٍ، حتى عندما ينتهي من مسألة من المسائل يكون الانتهاء له مدلول، والبداية لها مدلول آخر، كان الشيخ رحمه الله من أدق الناس في العبارة، ومن أجود الناس في البعد عن الحشو وما لا فائدة منه، فينبغي أن نعود أنفسنا على هذا الأمر.