للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مراعاة بعض الأمور في كل فنٍّ يطلبه طالب العلم

في الدروس الماضية توقفنا عند الأمور التي لا بد من مراعاتها في كل فن يطلبه طالب العلم، وهي حفظ مختصر فيه وضبطه على شيخ متقن، وعدم الاشتغال بالمطولات وتفاريق المصنفات قبل الضبط والإتقان لأصله، ولا تنتقل من مختصر إلى آخر بلا موجب، فهذا من باب الضجر، وينبغي اقتناص الفوائد والضوابط العلمية، وجمع النفس للطلب والترقي فيه، والاهتمام والتحرك للتحصيل والبلوغ إلى ما فوقه، حتى تفيض إلى المطولات بسابقة موثقة.

وقد سبق أن علقنا على هذه الأمور، وأن هناك فرقاً بين طلب العلم الشرعي الذي يحتاج الإنسان فيه إلى التأصيل العلمي، وبين الثقافة العامة وأن يكون الإنسان فكرة عن علم من العلوم، أو نوع من أنواع الفنون المتعددة.

فالفرق بين العلم الشرعي المؤصل، وبين الثقافة العامة: هو أن العلم الشرعي المؤصل يعتمد على الإتقان والضبط؛ ولهذا اجتهد أهل العلم في تأليف المختصرات المنضبطة التي تحتوي على أهم المسائل والقضايا المتعلقة بهذا العلم، بحيث إن الإنسان إذا ضبط هذا المختصر، فقد ضبط الأصول والقواعد التي ينبغي للإنسان أن يدركها في هذا الفن، ثم ينتقل إلى كتاب أعلى منه بقليل، ثم أعلى من الثاني بقليل، وهكذا حتى يتقن؛ لأن البناء -كما تعلمون- لا يتم إلا إذا وجدت هناك قواعد يبني الإنسان عليها، فإن البناء سيكون قوياً بقدر ما تكون القواعد التي بني عليها قوية أيضاً.

فأنتم تلاحظون أن من الأمور التي لا بد من مراعاتها كما ذكره الشيخ: عدم الاشتغال بالمطولات وتفاريق المصنفات قبل الضبط والإتقان لأصله، وكل علم من العلوم الشرعية فيه مصنفات مطولة، وفيه مصنفات متوسطة، وهناك مصنفات عبارة عن كتب مختصرة، لكنها مركزة في هذا العلم، فلا ينبغي للإنسان أن يشتغل في القراءة في المصنفات العامة قبل أن يتقن مختصراً في هذا العلم؛ لأنه إذا أتقن مختصراً من المختصرات في هذا العلم، فإنه عندما يقرأ في المطولات سيُردُّ كثيراً من التفاصيل إلى الأصول التي قرأها في مختصره؛ ولهذا فإن الثقافة العامة تعتمد على تجميع المعلومات، يحفظ الإنسان ما يحفظه منها وينسى ما ينساه منها.

فالإنسان تجد عنده مجموعة معلومات، لكن معلومات مفرقة، والروابط بين هذه المعلومات ومعرفة جذور هذه المعلومات ليست بجيدة، وليست على مستوىً تؤهل هذا الإنسان للفقه في الدين الذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، يعني: يفهمه هذه الأحكام، والتفهم يقتضي أن يتريث الإنسان، وأن يتأنى، وأن يقرأ العلم قراءةً متأنيةً هادئةً، ويحفظه ويضبطه، وهكذا كانت طريقة العلماء من زمن الصحابة رضوان الله عليهم إلى اليوم، فإنك عندما تقارن بين عالم من العلماء يفتي في باب العقيدة وفي باب الفقه، وفي كل الأبواب تجد أنه لم يتوصل إلى هذا المستوى إلا بعد هذا التدرج الذي ذكرناه، وتجد أشخاصاً مثقفين لديهم معلومات متنوعة، لكن هذه المعلومات المتنوعة لا تؤهله للإفتاء، وإذا أفتى أو تكلم في علم من العلوم خلط، وأصبح ينقض بعض الأصول التي دلت عليها عشرات الأدلة الشرعية والعقلية ونحو ذلك؛ ولهذا كان الحافظ ابن حجر رحمه الله عندما يذكر بعض المصنفين الذين يخبطون خبط عشواء يقول رحمه الله تعليقاً على ذلك: من تكلم في غير فنه يأتي بالعجائب! فالإنسان الذي يتكلم في علم من العلوم وهو لا يتقن هذا العلم، فإنه سيأتي بالغرائب والعجائب فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>