وما ترك الشعر إلاّ إنّه ... تقصر على نفسي وصف الأمير المدائح
قلت: وما أحق أنَّ يتمثل بك بهذا عند ترك الاشتغال بمديح النبي صلى الله عليه وسلم! فإن أكثر الفحول تركوه واشتغلوا بمديح غيره. وما ذلك إلاّ عجزاً: فإن نباهة مكانه صلى الله عليه وسلم، وجلالة جانبه تبهر العقل وتحير الفكر، فلا يستطيع إنَّ يجول فيه، ولو جال لقصر. وقد ذكر أبن الخطيب رحمه الله هذا المعنى في صدر كتاب السحر والشعر له، بعد إنَّ ذكر مقطعات لبعض الأدباء في مدحه صلى الله عليه وسلم، فقال وكما أنَّ الشعر لم يتعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي له لئلا يرتاب المبطلون، وذلك في حقه الكامل، بخلاف غيره، كذلك يبعد أو يمتنع أنَّ وجد قسم السحر في مدحه، إذ أصله الإغياء والمحاكاة والخيال والتمجين، حتى قال: ووقار جانبه صلى الله عليه وسلم يبهر النفس ويمنع من استرسالها في ذلك. فالمجيد فيه من عول على نصاعة اللفظ، وقصد الحق، وقرب المعنى، وإيثار الجد. انتهى. قلت: ومن أسباب ذلك إنَّ المديح إنّما يحسن لاشتماله على المحاسن وأوصاف كمال للممدوح، ويتفطن لها الشاعر دون غيره، ويبالغ فيها أكثر مما يستحق الممدوح ويظن به.
وقد علم في حق النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ كل ما يتخيله الشاعر من المحاسن والكمالات، فالنبي صلى الله عليه وسلم زائد على ذلك وارفع منه إذ لا يبقى فوق كماله صلى الله عليه وسلم إلاّ كمال الألوهية، وليس لأحد أنَّ يثبته له، فلم يبق للشاعر إلاّ إنَّ يبين ما هو عليه أو أنقص، وكلاهما لا طائل فيه، مع أن إتيان قدره صلى الله عليه وسلم نتعذر عادة، إذ لا تصل إليه العقول فليس إلاّ القصور. ولله در القائل:
ما قصر الشعراء فيك تعمدا ... بل دق في أفكارهم معناكا
نعم! يمكن الإتيان بشيء من حلاه صلى الله عليه وسلم وأوصفه على نوع من الغرابة وضرب من المبالغة، بحسب ما يرى الناس من حاله صلى الله عليه وسلم.