للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلو قيل مبكاها بكيت صبابةً ... بسعي شفيت النفس قبل التندمِ

ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت: الفضل للمتقدمِ

وقال المجنون:

وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الاباطحِ

تجافيت عني حين لا لي حيلةٌ ... وخلفت ما خلفت بين الجوانحِ

وزعموا أنَّ رجلا دخل بني عامر يسأل عن المجنون فقيل له إنّه في هذه لبصحراء قد استوحش وإنّه إذا رآك نفر منك؛ ولكن إذا رأيته فاجلس كأنك لا تقصده فانه يجلس إليك. فإذا جلس إليك فإن كان عندك شيء من شعرا بن ذريح فاذكره فانه يصغي إليك. قال: ففعلت ذلك. فلما جلس إلي قالت: ما أشعر قيس بن ذريح حيث يقول:

وإني لمفنٍ دمع عيني بالبكا ... حذاراً لمّا قد كان أو هو كائنُ

وقالوا: غداً أو بعد ذاك بليلةٍ ... فراق حبيبٍ بان أو هو بائنُ

وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفي إلاّ الله تعالى ما حان حائنُ

قال: فبكى طويلا ثم قال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:

أبى القلب إلاّ حبها عامريةً ... لها كنيةً عمرو وليس لها عمرُ

تكاد يدي تندى إذا لمستها ... وينبت في أطرافها الورق الخضرُ

عجبت لسعي الهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الهرُ

ثم أوغل في الصحراء وتركني فانصرفت. فلما كان الغد رجعت فقلت: ما أشعر قيسا حيث يقول:

يبيت ويضحى كل يومٍ وليلةٍ ... على منهج تبكي عليه القبائلُ

قتيلٌ للبنى صدع الحب قلبه ... وفي الحب شغلٌ للمحبين شاغلُ

فبكى أيضاً طويلا ثم قال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:

سلبت عظامي لحمها فتركتها ... معرقةً تضحى لديك وتخصرُ

وأخيلتها من مخها فكأنها ... قوارير في أجوافها الريح تصفرُ

إذا سمعت ذكر الفراق تقطعت ... علائقها مما تخاف وتحذرُ

ثم قام هاربا وتركني. فانصرفت ثم عدت في الغد فقلت: ما أشعر قيسا حيث يقول:

هبوني امرءاً إن تحسنوا فهو شكرٌ ... لذاك وإن لم تحسنوا فهو صافحُ

<<  <  ج: ص:  >  >>