والترك للشبهة قد يكون واجباً متعيناً كما قالوا: ما لا يترك الحرام إلا بتركه فهو حرام، وكما قالوا: يجب ترك المشتبه لو اشتبهت مذكاة بميتة، كما لو أعطاك إنسان فخذ كبش، وبعد قليل أعطاك رجل آخر فخذ كبش أخرى، وأنت تعلم أنه يستبيح أن يأكل الميتة، وصار عندك الآن هذا اللحم وهذا اللحم، يا ترى! أيهما من لحم الميتة وأيهما من المذكاة؟! وكما قالوا: إذا اشتبهت أخته بأجنبية -وهذا مثال مذكور في أصول الفقه- فيحرم عليه وطء الأجنبية اتقاء لأخته.
وكذلك اشتباه المغصوب بالحلال، واشتباه سطل ماء طهور يمكن أن تتوضأ وتغتسل وتشرب منه، بسطل آخر مثله جاء إنسان فبال في أحد السطلين، ثم جاء شخص لا يعلم وغير مواضع السطلين، كما لو كانت إلى جهة الشرق والغرب، فجاء واحد وحولها شمالاً وجنوباً، وأنت كنت تعلم أن الذي في جهة الشرق هو الذي فيه البول، فهذا نجس بيّن، وذاك طهور بين، ولكن الآن اختلفت عليك السطول ولم تعد تدري بالنجس، حيث لم يتغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، فلم تستطع أن تحدد أيهما الطاهر، فهل يجوز لك أن تتوضأ بواحد منهما؟ حصل خلاف بين الفقهاء في ذلك فقيل: يتوضأ من هذا مرة ومن هذا مرة، هذا حاجة إلى ذكر الخلاف، ولو كان عندك إناءان فيهما عسل، وهما بشكل واحد، وحجم واحد، وجاء إنسان ووضع السم أمامك في أحد الطبقين، ثم ذهبت عنهما فقلت: السم في الذي في الجهة الغربية، والطبق الذي في الجهة الشرقية سليم ليس فيه سم، وأنا جائع أريد أن آكل، فجئت ووجدت الطبقين منحرفين، تغيرا عن وضعهما، فلا تدري أين الذي كان في الغرب وأين الذي كان في الشرق؟ فهل يمكن أن تمد يدك إليه؟ مستحيل أن تذوق واحداً منهما؛ لأنه اشتبه عليك الحلال بالحرام.
يقول العلماء في مسألة إذا قتل الرجل عبداً: هل فيه الدية أو فيه القصاص؟ هناك من يقول: فيه القصاص؛ لأن النفس بالنفس، وهو قول ابن حزم ومن يوافقه.
والجمهور يقولون: لا، هو وسط اجتمع على شبهين من طرفين مختلفين: فمن حيث أنه يباع ويشترى ويوهب ويكون من الميراث، فيشبه الأموال والمتاع، ومن أتلف متاعاً فعليه قيمته بالغة ما بلغت.
ومن جهة أنه يقيم الصلاة، ويصوم رمضان، ويذكر الله، وأنه مكلف بالعبادات أشبه الإنسان، ومن قتل إنساناً فحكمه؟ {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:٤٥] ، إذاً: اشتمل على وجهين مختلفين، يشبه كل وجه جانباً من الجانبين، فكان فيه قياس الشبه، كما يقول الأصوليون، فمن غلب شبه الإنسان الحر ألحقه بالدية، ومن غلب شبه المتاع والمال غلب فيه جانب القيمة، ولو بلغت قيمته أكثر من دية الحر.