[مقارنة بين ابتلاء بني إسرائيل وأمة محمد عليه الصلاة والسلام]
الشيء بالشيء يُذكر، امتُحن بنو إسرائيل في مادةٍ امتُحنت فيها هذه الأمة، ورسب بنو إسرائيل، ونجحت هذه الأمة.
حينما خرج بنو إسرائيل من البحر وقال لهم الله: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:٢١] ، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ.
} [المائدة:٢٢] {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] ، قالوا كلمة تستحي منها العجائز! الله يقول: {الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:٢١] ، أي: وعدهم الله أنهم سوف يأخذونها، وقال رجلان منهم: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:٢٣] .
ومع هذا كله يقولون: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:٢٤] ، وأما هذه الأمة في غزوة بدر، يخرجون وهم نفر قليل (٣١٤) شخصاً، معهم (٧٠) بعيراً فقط، وفرسان، ويذهبون لأخذ قافلة لقريش بلغهم خبرها، وليس هذا من قطع الطريق، بل هو جزءٌ من المعاملةٍ بالمثل؛ لأن من هاجروا من مكة تركوا ديارهم وأموالهم، واستولى عليها المشركون هناك.
صهيب رضي الله عنه لما خرج مهاجراً، لحق به أهل مكة، وقالوا له: والله! لا تذهب، جئتنا صعلوكاً لا مال لك، فصرت غنياً، ثم تريد أن تخرج بنفسك وبمالك! هذا لا يكون، قال: أرأيتم إن وصفت لكم مكان مالي، أتذهبون تأخذونه وتتركونني؟ وتعلمون أني رامٍ، والله! لا يطيش لي سهم أبداً، وكنانتي مليئة، فترك لهم المال، وأخذوا ماله عنوةً، بيعٌ رابح وصفقة رابحة، كما قال له صلى الله عليه وسلم: (ربحت الصفقة) .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح قيل له: (أين تنزل غداً يا رسول الله؟! يعني: في أي البيوت؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من دار أو عقار؟!) فهم أخذوها وباعوها.
إذاً: المشركون سبقوا بالتعدي على أموال المهاجرين، وهذه قافلة خرج إليها صلى الله عليه وسلم؛ ولكن يريد الله أمراً كان مفعولاً.
العير نجت، والنفير أقبلت، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:٤٢] ، توقيت من الله سبحانه وتعالى.
ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن العير التي هي الغاية فاتت، ومعه وعد من الله، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:٧] لا بعينها، ولكن واحدةً منهما، وهذا نوعٌ من الترغيب؛ ولكن أيُّهما يا رب؟ {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:٧] هذه رغبتكم؛ ولكن الله يريد {أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} [الأنفال:٧] .
فلما علم بأن العير قد نجت، والنفير قد أقبلت، استشار أصحابه، وتكلم المهاجرون وأحسنوا، وقال قائلهم: (والله يا رسول الله! لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] ؛ ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله! لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ويقول سعد: يا رسول الله! لعلك تعنينا معشر الأنصار! قال: نعم.
فيتكلم رضي الله تعالى عنه ويقول: والله إنا لصبر عند اللقاء، والله! لو خضت بنا إلى برك الغماد لجالدناهم عليه) .
هؤلاء يقولون: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] ، وهؤلاء يقولون: نخوض البحر معك! إذاً: كان الحكم على هذه الأمة بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١١٠] ، حكم بحيثياته وموجباته، وهذا فضل من الله سبحانه.
إذاً: التحريم ابتلاء وامتحان لتظهر حقيقة المكلف.
وكل التكاليف ابتلاءات تعبدية، والواقع أنها -وإن كانت تعبدية- فهي لعلل موجودة ترجع إلى المكلف.