للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طمأنينة النفس]

وقال في حديث وابصة: (استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، فذكر هذا الميزان، وهذا المقياس، فاطمئنان النفس يدل على حل الشيء، وعدم الطمأنينة بالشيء يدل على الإثم، وجاء في بعض الآثار: (إياك وحزَّاز القلوب، أو حوّاز القلوب) ، وحزاز القلوب هو: الشيء الذي يحز في النفس ولا تتحمله، ويورث قلقاً واضطراباً، وحوّاز: من الحوز، أي: الذي يشتمل على القلب ويغلب عليه.

وقد يشكل هذا الحديث على بعض الناس فيقول: هل نرجع في بيان الحلال والحرام والبر والإثم إلى النفوس؟ وأي تلك النفوس؟ وأي مقياس لها؟ قال العلماء: لا، لا تنس الحديث الذي تقدم: (إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور متشابهات) ، إذاً: طلب طمأنينة القلب والنفس عند عدم الركون إلى أحد الجانبين، وفيما هو وسط بين الطرفين الواضحين، فالحلال بيّن ليس فيه تردد، والحرام بيّن ليس فيه تردد، ولكن بينهما أمور شفافة دقيقة رقيقة لا تتضح لكل إنسان، فهي مشتبهات متموجة، (لا يعلمهن كثير من الناس) ، فإذا كان الإنسان أمام أمر فلينظر -بإجماع المسلمين- هل فيه نص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ قال الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً} [النساء:٦٥]-أي: ضيقاً- {مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥] ؛ ولهذا كم من موقف كان الحق ثقيلاً على المؤمنين، ولم تطمئن إليه نفوسهم كقوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:٧] ، فهم لم يكونوا يريدون القتال في بدر، بل يريدون الغنيمة، ولكن الله أراد شيئاً آخر، ولذا قال سعد بن معاذ: (يا رسول الله! امض لما أمرك الله، فلعلك خرجت تريد أمراً، والله يريد أمراً غيره، فامض إلى ما أراد الله يا رسول الله!) .

وكانوا في الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) فهل بادروا بالتحلل؟ لا، بل وقفوا وقالوا: (يا رسول الله! أي الحل؟! قال: الحل كله، قالوا: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟) ، كانوا مستنكرين هذا، وأخيراً شرح الله صدورهم وأطاعوا.

وفي صلح الحديبية ذهب عثمان رضي الله تعالى عنه ليفاوض قريشاً، ويخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء معتمراً، وما جاء مقاتلاً، فتأخر عليهم، وأشيع أنهم قتلوه، فماذا فعل الرسول؟ بايع أصحابه على الموت أو على ألا يفروا، فبايعوا جميعاً، وهي بيعة الرضوان التي كانت تحت الشجرة، وقد ذكرها الله في كتابه، ثم انكشف أن عثمان لم يقتل، وحينما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بايعوني، أخذ بيده الأخرى، وقال: وهذه عن عثمان) ، وهل يبايع عن عثمان وهو ميت، أو فعل ذلك إشعاراً بأن عثمان لم يمت؟ الله أعلم، ولكن يسر الله سبحانه وتعالى تلك البيعة، وسجل لهم ذلك الفخر والفضل في القرآن.

وبعد هذا جاء سهيل بن عمرو للمفاوضة، وقبل صلى الله عليه وسلم ما شرطوا عليه، وماذا كان موقف عمر؟ جاء إلى أبي بكر وقال: (ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! لماذا لا نقاتلهم؟!) فهل كان عمر راضياً بهذه البيعة؟ وهل اطمأنت نفسه لها؟ لا، فهو كان يتطلع لشيء آخر، لكن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: (يا عمر! إنه رسول الله) ، يعني: هو يمشي بوحي من الله، فلا تعترض يا عمر! ؛ لأنه من عند الله، لكن عمر يأخذه الحماس، ويذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعيد الكرة عليه، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! أنا عبد الله ولن يضيعني الله) ، قال عمر: (والله! لم أزل أصوم وأتصدق وأعتق تكفيراً لتلك الكلمة) ، ثم أنزل الله سورة الفتح وفيها: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح:٢٧] ، وقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:١] ، أي: لا تقدموا الآراء والاقتراحات، فهذا رسول الله، وقد سمى الله هذا الصلح فتحاً مبيناً.