[الرحلة في طلب العلم]
طلب العلم لا يساويه شيء، وفضل العلم لا يوازيه فضل، وشرف العالم بعلمه والعامل بمقتضاه ليس بعده شيء، وهذا فيما يتعلق بمن سلك طريقاً يطلب فيه علماً.
ونجد السلف في رحلتهم لطلب العلم قد ضربوا أروع الصور، فـ أبو أيوب الأنصاري يرحل إلى الفسطاط في مصر لطلب حديث، وجابر بن عبد الله يرحل إلى دمشق في طلب حديث، حتى ألف العلماء: الرحلة في طلب العلم.
ونبي الله موسى سأله الناس: هل يوجد من هو أعلم منك؟ فقال: لا.
فقال الله له: إن عبداً من عبادي أعلم منك.
قال: وأين مكانه؟ فأخبره، فقال: كيف أعرفه؟ قال: خذ معك حوتاً مطبوخاً، وذلك ليتغذى به، فمشى على جانب البحر حتى إذا جاوز المكان قال لغلامه -كما حكى الله عنه-: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:٦٢-٦٥] .
وهناك فرق بين قوله: (عجباً) و (سرباً) ، فالتعجب من إحياء الحوت الذي كان للغداء، ولكن حينما كان رفيق موسى معه واستراح عند الصخرة، إذا بالحوت يتحرك في مكتله، ويأتي إلى الماء وينزل، فقال تعالى: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف:٦١] ، أي: جاعلاً سراباً وراءه؛ ليعلم القارئ والناظر أن الحوت حينما وصل إلى الماء لم يختفِ فيه ويذهب؛ لأن هذا يعني أنه قد يكون ميتاً على ما كان عليه، ولكن بعد أن أحياه الله ومشى في الماء ترك السراب وراءه، أي: جعل الماء منشقاً ليتأكد الرائي بأن الحوت قد عادت إليه حياته، ولم يكن مجرد سقوط في الماء ليرسب في قاعه أو يكون في وسط الماء.
فشق طريقاً سرباً ليرى الرائي وليسمع القارئ ويعلم أن الحوت عادت إليه حياته.
والذي يهمنا أن موسى عليه السلام سعى إلى الخضر ليتعلم ما لم يكن يعلمه، ويذكر العلماء في قصة موسى مع الخضر آداب العالم والمتعلم، فقد نبهه الخضر فقال: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:٦٧-٦٩] .
فقد يكون طالب العلم في بداية أمره يسمع من شيخه حديثاً أو حكماً أو مسألة لا يدرك أو لا يحيط بها فكراً، أو لا يقوى على فهمها وإدراكها، فلا يكن ذلك سبباً في انتقاده لشيخه، او اعتراضه عليه، أو انصرافه عنه وعدم ملازمته والأخذ عنه.
ونعلم جميعاً أن الله سبحانه أعطى الخضر ما لم يعط موسى، وأعطى موسى ما لم يعطِ الخضر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى لو صبر لرأينا علماً واسعاً) .
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الرجل أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجد عالما أعلم من عالم أهل المدينة) ، ويرى كثير من السلف أن المعني به مالك بن أنس، وينازع في ذلك ابن حزم ويقول: مالك كان في عصره كثير من زملائه وأقرانه، ومالك كان من قبله علماء ومن بعده علماء.
ولكن يهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلن أنه يأتي على الناس وقت يضربون فيه أكباد الإبل لطلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم بالمدينة.
وإذا أخذنا ذلك مع حديث (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) علمنا أن الإيمان لا يكون إلا عن علم، وبوب البخاري رحمه الله: (باب العلم قبل العمل) ؛ لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:١٩] ، فاعلم أولاً، وإذا لم يكن العلم وكان الجهل اتخذوا آلهة متعددة، ولما جاءهم الوحي وأمروا أن يقولوا: (لا إله إلا الله) قالوا لجهلهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥] ، ولكن إذا نظرنا إلى هذا الحديث: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) عرفنا من باب اللزوم أن من لازم إرز الإيمان إلى المدينة أن يسبقه العلم ويلتقيان بها.
فتظل المدينة -بحمد الله- دار العلم وعاصمة العلم ومقره، وإن كان قد جاء عليها زمن تعطل فيها بعض الشيء، ولكن لم ينقطع؛ لأنه حينما انتقلت الخلافة إلى الشام كان العلماء هناك، ولما انتقلت إلى العراق كان العلماء هناك، وما خلت المدينة في عصر من عصورها من العلماء، لكن يقلون أو يكثرون.
وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من راح إلى مسجدي لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله) .
ويذكر البخاري في كتابه الأدب المفرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي أقوام من أقطار الدنيا -أو سيأتيكم أقوام من أقطار الدنيا- يطلبون العلم فأقووهم وعلموهم) .
ومعنى (أقووهم) ساعدوهم، أو: آووهم، فكان ابن مسعود كلما جاءه طالب علم يقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.