[لا يستوي الخبيث والطيب]
إخلاص العمل لله سبحانه وتعالى شرط لطيبه، فإذا لم يكن العمل خالصاً فهو خبيث، وإذا نظرنا إلى الأشياء نجد أن الطيب يقابله الخبيث، ومن صفات النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل أنه كما قال الله: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:١٥٧] ، وهذا هو الذي يليق بمقام المولى سبحانه، وبرسالات الرسل، ولأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
هذا، والكلمة تقسيمها ثنائي، إما طيبة أو خبيثة، قال الله:: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} [إبراهيم:٢٤] ، ثم قال: {كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ} [إبراهيم:٢٦] ، وكذا الأرض: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ} [الأعراف:٥٨] ، وقال سبحانه: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:٢٦] .
وقال: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:٢٦] ، وهكذا كل ما أوجده الله سبحانه وتعالى تجد فيه الطيب وتجد أنه يقابله الخبيث.
وهكذا في جميع العبادات، لا يقبل الله سبحانه عبادة من إنسان إلا إذا كانت طيبة، ومتى تكون طيبة؟ إذا كانت وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: في التشريع، وقصد فاعلها وجه الله، وهذا ما أمر الله به، وأوجبه على عباده، قال الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:٥] {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:١١٠] ، وعلى هذا قس جميع الأعمال.
وفي بعض الآثار مما يتعلق بالحج: (من حج بمال حلال، وزاد حلال، وراحلة حلال، فوضع رجله في الغرز وقال: ليبك اللهم لبيك، نودي من السماء: لبيك وسعديك، وإذا كان حراماً، وقال: لبيك، نودي: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً!) .
ويقول بعض العقلاء: عجباً لهذا الشخص الذي يحمل زاداً حراماً ليحج به! وهذا حق، فكيف تكون قاصداً بيت الله لتحج وتؤدي المناسك وتعظم الشعائر والمشاعر؛ وأنت تحارب الله عند بيت الله بما حرم الله عليك؟! فكونك بعيداً عن بيت الله أخف، وتكون مثل السارق الذي يختفي، لكن المجاهرة بالمنكر لا تُحتمل، فلو أن إنساناً سرق ثوب جاره، ثم جاره دعاه لوليمة لديه، فهل يذهب بالثوب المسروق أم بغيره؟! فإذا ذهب بالثوب المسروق الذي يعرفه الجار جيداً، فإن هذا يعتبر تحدياً لصاحب الثوب، مع أنه دعاه ليكرمه!! أما لو كان بعيداً عنه، ولم يدر عن هذا الثوب شيئاً؛ فالأمر أهون، أما أن يتحدى صاحب الثوب، ويأتيه وهو يكرمه، فالعقل والواقع يرفض ذلك تماماً.
وكذلك ربك دعاك لتحج بيته، ولتقف المواقف، ولتشهد المشاهد، وتذكر الله في تلك المواطن كلها، فكيف تأتيه متبجحاً بهذه الحال، ولسان حالك: يا رب! أنا سرقت من مال فلان، ونهبت مال فلان، واغتصبت مال فلان، وجئت لأحج بيتك بمال مسروق! فبأي شيء تفسر هذا التصرف المشين؟! (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، ومن هنا بيّن صلى الله عليه وسلم أن الله لا يقبل الصدقة إلا إذا كانت طيبة، ويقول بعض السلف: لأن أكف عن كسب درهم حرام، أحبُّ إليّ من أن أنفق مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف وهي حرام، وما قيمة ذلك؟! فلأن تكف عن درهم واحد حرام أولى من أن تنفق مئات الآلاف من الدراهم إن كان كسبها حراماً؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
وهكذا العقود، ومعاملات الناس، فإذا غش أو دلس في السلعة، فهل هذا طيب؟ الواقع يقول: لا، فكيف يكون طيباً عند الله؟! فالله لا يقبل ذلك العمل، ويعاقب عليه، فالإسلام في جميع تعاليمه تحت عنوان (طيب) .
وهكذا القتال، لابد فيه من الإخلاص، قال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، لو أن إنساناً أراد أن يطبق جميع التشريعات في الإسلام الجزئية والكلية على هذا اللفظ: (لا يقبل إلا طيباً) ؛ لما شذت جزئية واحدة في التشريع.
ففي باب الطهارة لا يقل الله إلا طيباً، وقد بينت مسألة إسباغ الوضوء، ومثله يجب إسباغ الغسل على جميع البدن؛ لأن تحت كل شعرة جنابة.
وفي الصلاة: الطمأنينة والخشوع واستكمال شروطها.
وفي الصوم يكف عما حرم الله، فتصوم معه جميع الجوارح.
وفي الزكاة: (لا يقبل الله صدقة من غلول) ، لا يقبل الله صدقة من مال حرام: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:٢٦٣] ، فالقول المعروف طيب يقبله الله، والأذى يفسد ذاك المعروف، قال الله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:٢٦٤] ، فالأذى ليس بطيب، والله لا يقبله، فكونك تتصدق وتمنّ على المسكين بالصدقة هذا يبطل أجرها، فاتق الله! في صدقتك ولا تبطلها، فكما أعطاك الله يعطي غيرك، وكما حرم هذا قد يحرمك.
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل أنت ما تدري متى الغنى والفقر، فكون المال جُعل في يدك هو ابتلاء لك، ومنعه من يد الآخر ابتلاء له: أتشكر النعمة أم لا؟ أيصبر على الفقر أم لا؟ وكله ابتلاء، والابتلاء أنواع.
إنسان يبتلى بمرض، يبتلى بمال، يبتلى بفقر، يبتلى بشخص يؤذيه، وقد يكون من أقرب الناس إليه.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يجد عدواً له ما من صداقته بد إذاً: كونك تمنّ على المسكين لا يجوز لك ذلك عند الله سبحانه وتعالى، وقد أوجب الله عليك حفظ ماء وجه الفقير عند استلام حقه، فقال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:٢٤-٢٥] ، ومن الذي يتولى أخذ هذا الحق من الغني وإعطاءه الفقير؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة أمور المسلمين من بعده؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:١٠٣] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت، ومن امتنع أخذناها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) ، وما دام أنه ليس له منها شيء فلماذا يتحمل مسئوليتها؟ ليحفظ ماء وجه الفقير، وإذا جاء فقير إلى باب الغني وقال: أعطني حقي في الزكاة، فقد يماطله الغني، وكيف يكون حال المسكين؟! أليس فيه امتهان له؟! أما عندما يأخذها ولي الأمر منه، ثم يقول للمسكين: خذ حقك، فحفظ بذلك ماء وجهه من سوء المسألة.
والإسلام طيب؛ لأنه دين المولى سبحانه، فهو طيب لا يقبل إلا طيباً، ففي الكلام لا يقبل منك إلا كلمة طيبة؛ وفي الدعاء إذا سألت ربك لا تتنطع في الدعاء، ولا تدعو بمعصية، فهذا ليس طيباً، وحينئذ لا يقبلها.
وأقول لطلبة العلم خاصة ولكل مسلم عامة: لو تأمل أحد جميع ما أمر به أو نهي عنه لوجده داخلاً تحت هاتين الجملتين: (إن الله طيب، لا يقبل إلا طيباً) ، وأظن أن هذا التنبيه كافٍ.