وحدثنا بعض مشايخنا قصة حدثت قبل حوالي ثلاثين أو خمس وعشرين سنة، قال: كان فلان يمشي معي، وفي ميدان كذا من مدينة كذا، وسماهما، وكنا نتحدث في قضية كذا، وذكرها، وكان منفعلاً للغاية، وأنا أقول له: لا تعجل، الزمن كفيل بكذا إن شاء الله الصبر جميل، وهو منفعل إلى أقصى حد، وجئنا لنعبر الطريق، والميدان دائرة كبيرة، ونريد أن نعبر من الرصيف الأيمن إلى الرصيف الأيسر، وفي منتصف الطريق وفي زحمة السيارات توقف وقال: خذ بيدي! فانتهرته وقلت: ليس هذا وقت المزح! ابتعد عن السيارات، فقال: لم أعد أبصر! فنظرت إلى عينيه، وهما قائمتان، فنهرته وسحبته، فقال: أقسم بالله! إني لا أراك! وبكى، فذهبنا مسرعين إلى طبيب مختص، ودفعنا أجرة كشفيته مضاعفة -والمستعجل يدفع مالاً مضاعفاً- وحالاً بعد الكشف المستعجل على العينين أمر الطبيب بتهيئة غرفة العمليات حالاً وقال: قبل ساعتين يجب أن تنتهي، قال صاحبه: أخبرني أيها الطبيب! ما الذي حدث؟ قال: انعزلت الشبكة القرنية عن محلها، أي: التوصيلة التي بين العين والدماغ انفصلت، مثل التيار الكهربائي عندما ينقطع يتوقف الجهاز حالاً، قال: ما السبب يا دكتور؟ قال: أخبرني أنت، ما الذي كان يفعل صاحبك قبل أن تأتي به؟ لو تأخرت ساعة لجف العرق وذهبت العين، فما الذي كان يفعل؟ قال: لا شيء، غير أنا كنا نمشي ونتحدث، وفجأة أوقفني، قال: فيم كنتما تتحدثان؟ قال: كنا نتحدث في كذا وكذا وكذا، قال: أكان منفعلاً للغاية؟ قال: نعم، في أشد الغضب، قال: هذا الانفعال هو سبب فصل الشبكة القرنية!! إذاً: عليك ألا تغضب لتسلم من الأمراض، فبالغضب قد تنفجر الطبلة في الأذن، وقد تتخلخل الأسنان، وقد ينشل المخ لسرعة التفكير وقوته، وقد يتعطل مركز من مراكز المخ فينشل عضو من أعضاء الجسم، فلا تغضب، فإن كثرة من في القبور من الغضب.
إذا كان الغضب غريزة وهذه أخطاره، فهل نتخلص من غرائزنا؟ لا، ليس المراد بقوله:(لا تغضب) أن تنتزع هذه الغريزة من نفسك، وأن تتجرد من إحساسك، لا، فإن الغضب من شيمة الرجال، والشخص الميت لا يغضب بالكلية، فالغضب دليل الإحساس، لكن إذا أحسست بدوافع الغضب، فلا تسترسل معه، ولا تستجب لدعائه، فإذا غضبت من إنسان فالنفس تدعوك إلى البطش وإلى الانتقام، فلا تنفذ ما يدعوك إليه الغضب، إذاً: ليس المراد بقوله: (لا تغضب) أن تكون ميتاً، فالحيوان لو اعتدي عليه فإنه يغضب لنفسه، وليس معنى ذلك أن تسلب نفسك الإحساس بالغضب، ولكن معناه: أنك لا تمكنه من نفسك، معناه: أنك لا تستجيب لنزعات الغضب.
فكيف نعالج الغضب؟ ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في مجلسه، وقام رجلان يستبان، كل واحد منهما يسب الثاني، وأقول: سامحهما الله! يستبان أمام رسول الله! فغضب أحدهما جداً حتى انتفخت أوداجه، واحمرت عيناه.
وهذا هو أثر الانفعال، فإذا انتفخت الأوداج فمعناه: أن الدم يجري بكثرة في العروق، هناك أوردة شعرية دقيقة مثل الشعرة تغذي ما تحت جلدك، فإذا ما غمزت بطرف الدبوس في أي محل في جسدك فإنك تحس به؛ لأن خلية الإحساس موجودة، والخلية يغذيها الدم، والشعرة يغذيها عرق مثل الشعرة تحتها.
إذاً: هناك أوردة شعرية في الجسم، وأكثر ما تكون وأدق ما تكون تحت حاجب العين، وفي الدماغ، فإذا زادت كمية الدم في العروق، وزاد القلب في ضرباته ودفعاته، فتلك العروق الدقيقة لا تحتمل الضغط العالي فتنفجر، فيتعطل المخ، فالرجل المذكور انتفخت أوداجه واحمرت عيناه؛ لأن العين -كما يقول أطباء العيون- فيها ما يقرب من مليون خلية تنقل الألوان إلى المخ، فالعين أسرع ما تكون تأثراً عند الغضب، فقال صلى الله عليه وسلم لما رأى حال الرجل:(إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ، فسمعها رجل فذهب وهمس بها في أذن ذاك الرجل، فقال: أمجنون أنا؟! ما قبلها وهو غضبان، ولو كان مالكاً لنفسه لسمع وعمل بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.