للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب نزول قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك)]

من هم أولئك الذين يزعمون؟ وما علاقة هذا الزعم والتحاكم إلى الطاغوت حتى يأتي في مقابل المؤمنين الذين يتحاكمون إلى كتاب الله وسنة رسوله؟ أغلب المفسرين على أنها نزلت في القضية المشهورة، وهي: أن رجلاً يسمى بشراً من المنافقين، كانت بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: تعال بنا إلى محمد نحتكم إليه، قال المنافق: لا، بل إلى كعب بن الأشرف وهو من سادات اليهود.

اليهودي يقول: نذهب إلى محمد الذي تعلن إيمانك به، فإذا به يقول: بل نذهب إلى كعب بن الأشرف سيد اليهود.

فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت} [النساء:٦٠] ، والطاغوت كما يقول علماء اللغة: على وزن (فاعول) ، من الطغيان وهو: تجاوز الحد.

وكعب بن الأشرف من أشد الطواغيت في ذلك الوقت، وكان يظهر العداوة لرسول الله ولأصحابه ويهجوهم.

فاليهودي غلب المنافق وجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم رسول الله على مقتضى قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:٥٨] فحكم لليهودي، ولم يحكم لليهودي لشخصه بل أقام العدالة، بصرف النظر عن المحكوم له أو المحكوم عليه.

ولما خرجوا قال المنافق: أنا لا أرضى بهذا، ولكن تعال نذهب إلى أبي بكر، فالرسول مشغول وما عنده وقت وما يفهم منا، وأبو بكر يعطينا سعة أكثر، فجاءوا إلى أبي بكر، وقصوا عليه القضية فحكم لليهودي، فقال المنافق: لا، لنذهب إلى عمر، فـ أبو بكر مثل محمد مشغول، فلما أتيا عمر لقياه عند الباب، فبدره المنافق ليقص قصته فقاطعه اليهودي وقال: يا عمر! لا تتعب نفسك، لقد جئنا قبلك إلى محمد فحكم لي ولم يقبل، وجئنا إلى أبي بكر فحكم لي ولم يقبل، فقال عمر للمنافق: أهكذا كما يقول اليهودي؟ قال: بلى، احكم أنت.

فقال عمر: انتظرا، ودخل بيته وخرج بسيفه وضرب عنق المنافق وقال: هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم الله ورسوله.

فجاء أهل المقتول يطلبون الدية، وجاء جبريل عليه السلام، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فرق عمر بين الحق والباطل، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أنت الفاروق) ، ومن ذاك الوقت سمي عمر بـ الفاروق.

هنا نأخذ حقيقة اتباع رسول الله، وهو أن يكون هوى الإنسان تبعاً لما جاء به رسول الله.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي: أولئك المنافقين {تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:٦١] هذا يهودي يدعوك لرسولك وأنت تصد وتقول: بل نذهب لـ كعب بن الأشرف.

{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء:٦٢] المصيبة هي ما وقع على الرجل من عمر.

(جَاءُوكَ) أي: أولياؤه يطلبون الدية ويقولون: والله! ما نريد إلا الإحسان والإصلاح.

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:٦٣] كشف الله سبحانه وتعالى حقيقة ما تخفي قلوبهم، من الإعراض عن كتاب الله، والصد عنه؛ فهؤلاء يعلم الله ما في قلوبهم فاتركهم.