[العلاقة بين النور والبرهان والضياء في الحديث]
هذا الحديث النبوي الشريف ذكر قاعدة الإسلام -وهي العقيدة- في طهارة القلب، وأول ما يطهر العبد قلبه من درن الشرك والرياء، ومن الحقد والحسد، ثم ذكر عمل اللسان، بالتسبيح والتحميد للمولى سبحانه، وبالذكر عموماً، ثم ذكر ركنين من أركان الإسلام وهما: الصلاة، والزكاة، وبعد هذا قال: (والصدقة برهان، والصبر ضياء) ، فما الربط بين قوله: (الصلاة نور، الصدقة برهان، الصبر ضياء) مع أن كلها عوامل إضاءة مع اختلاف الماهية؟ أما النور فهو الهادئ، ولا حرارة معه، وأما البرهان فهو الشعاع الذي أمام قرص الشمس، وأما الضياء فهو نور الشمس، وعند المناطقة النسبة بين الثلاثة: التشكيك، فإنك إذا نظرت فيها تجد أنها تتفق في الجنس، وتتفاوت في الرتبة، ولو أشعلت عود ثقاب في صحراء لقلت: نَوّر، ولو جئت بماطور كهرباء في لمبة مليون شمعة لقلت: نَوّرت، ولكن تنظر إلى هذا وتقول: نُور وليس بظلام، وتنظر إلى هذا وتقول: نور وليس بظلام، ولكن الفرق بينهما بعيد، فهما جنسان مختلفان في الإضاءة وبينهما عنصر الإضاءة.
ويقولون: التشكيك بينهما نسبة منطقية، والعلماء يقولون: النور إضاءة بدون إحراق، وبدون شدة، وهكذا تكون الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) ، والصلاة صلة بين العبد وربه، أما الصدقة فهي برهان، والبرهان هو الحجة؛ لأنك تحتاج إلى إقامة الدليل على الإيمان باليوم الآخر، والمتصدق يؤمن أنه سيجد ثواب صدقته فيما بعد، ولذا يقدم الصدقة بدون عوض عاجل.
أما الصبر الذي هو الضياء فهو النور مع الحرارة، فما من عمل يدخله الصبر إلا وله حرارة في قلب المسلم، وقالوا: الصبر ثلاثة أقسام: صبر على البلايا، وصبر عن المعاصي، وصبر على الطاعة، فالصبر على البلاء يقولون: له ثلاثون درجة، والصبر على الطاعة له ثلاثون درجة، والصبر عن المعاصي له تسعون درجة، فالصبر على البلاء صبر ممدوح، وأشدها الصبر عن المعصية، فالصبر على البلاء فيه شدة، ولا شك أن فيه شدة، والصبر على الطاعة فيه، تتحمل مشاقها، فتمشي إلى المسجد في الرمضاء، وتمس الماء في البرد، وتتحمل مشاق السفر للحج، وتجاهد في سبيل الله بروحك ومالك، وهكذا.
فجميع حالات العبادة لا يؤديها إنسان إلا بالصبر، وقد جاء في الحديث: (الصوم نصف الصبر) ، والنصف الثاني مقسم على البقية، وفي الحديث: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه، وشرابه، وشهوته من أجلي) .
، فالصبر على أداء العبادات والطاعات شديد، لكن أشد منه الصبر عن المعاصي والشهوات.
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر إذاً: الصبر ضياء؛ لأنه أعم العمومات في التكاليف كلها، فلا تستطيع أن تقيم ركناً من أركان الإسلام إلا بالصبر، ولا تستطيع أن تتجنب معصية إلا بالصبر، فصبر نفسك عن نوازعك وهواك، وقاوم كل المؤثرات بالصبر، وهكذا في مكارم الأخلاق، فلن يبلغ الإنسان مداه، ولا يصل في مكارم الأخلاق إلى درجات عالية إلا بالصبر، يصبر على خصمه، ولا يقابل الإساءة بإساءة، كما في الآية الكريمة: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:٣٥] .
والنصوص الكريمة كثير في الصبر كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:١٢٧] ، أي: من أجل الله، وفي سبيل الله، والمتتبع لمواطن الصبر في القرآن يجدها فوق السبعين مرة، ولك أسوة في صبر أيوب عليه السلام فقد صبر صبراً فوق العادة؛ لأنه نبي كريم، وذكروا في سيرته أنه صبر صبراً لا يكاد يصبره شخص عادي.
قال صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء) : وإذا نظرنا من خلاله إلى حالات تقتضي الصبر، فانظر مثلاً حين تثير إنساناً حالات تغضبه، فإذا بادر وسارع إلى استجابة دواعي الغضب وقع في متاهة، وارتكب محظوراً، ولكنه إذا كبح جماح نفسه وصبر نجا، (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب) ، ما معنى يملك نفسه؟ أي: يكبح جماح نفسه بالصبر عن أن يندفع للانتقام، وكل إنسان يمر بحالات نفسية، فإذا صبر الإنسان، وتأنى لحظات، وبرهة من الزمن؛ كان هذا الصبر ضياء يكشف له الحقائق، ويبين له طريق الإحسان، ويوضح له المخرج من ذلك المأزق.
ومعاني الصبر أكثر من أن يستوفيها إنسان في كلمات، والرسول صلى الله عليه وسلم وصف الصبر بالضياء القوي ذي الحرارة؛ لأنه لا يوجد عمل يحتاج إلى الصبر إلا ومعه شدة، وتلك الشدة تقابلها شدة الحرارة في ضوء الصبر.