[وقفة مع قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم؟]
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] .
فقوله: {فَلا وَرَبِّكَ} [النساء:٦٥] ، ما الذي أحوجه إلى هذا القسم؟ وبماذا أقسم؟ ما قال: فورب السماء والأرض إنهم ولا قال: ورب الشعرى ولا قال: ورب السماوات والأرض ولا قال: ورب النفوس ولا قال: ورب الملائكة ولا قال: ورب جبريل بل قال: {فَلا وَرَبِّكَ} [النساء:٦٥] ، لماذا؟ لأن المنافق حينما أعرض عن حكم رسول الله نزَّل من حقه صلى الله عليه وسلم، فيرفع المولى مكانة رسوله بأن يقسم بربه، لكن هنا ربط القسم {فَلا وَرَبِّكَ} ، يعني: فلا تأخذ في خاطرك منهم {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} أي: لا قيمة لهم ولا إيمان ولا تصديق ولا اعتبار لهم أبداً في مجال الإيمان {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} ، وليس هذا المنافق فقط بل الكل.
{فِيمَا شَجَرَ} شَجَر: الشجار أصله مأخوذ من الشجر، والشجر إذا كانت أغصانه متقاربة فإنها تتداخل فيقال: متشابك متشاجر ولذا يقولون في اللغة العبرية: (مُوشَى) ماء وشجر، يعني: الذي وجد والتقط ما بين الماء والشجر، وغير العربية يقدمون المضاف إليه على المضاف، (موشى) يعني: شجر الماء.
فهنا: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ} يعني: تداخل والتبس عليهم.
وهنا نقف وقفة ونقول: قد يحتكم الإنسان إلى من لا يرضى حكمه، فالمنافق لما جاء مع اليهودي إلى رسول الله هل احتكم معه عن رضا؟ لا.
فحقيقة إيمان الأمة أن تأتي في الحكم إليه طائعة راضية إلى أقصى حد، ولا تجد في النفس حرجاً أبداً مما يصدر من قضائه صلى الله عليه وسلم {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} والحرج: الضيق.
{ثُم لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي: تسليماً مطلقاً عن رضا بهذا القضاء.
وأعتقد أنه لا يوجد في العالم قاض يستحق هذا الحكم من الناس أبداً.
يقولون: في بعض أسباب نزول الآية أيضاً شيءٌ آخر وهو: قضية سقي الزبير وجاره بالماء، ولا نريد أن نطيل المقام هنا.
ننتقل إلى مثال آخر: لو كان هناك شخص مريض وجاء إلى طبيب كافر، فقال له الطبيب: أنت تحتاج إلى شق البطن وإلى خياط كذا، وإخراج كذا، وعملية جراحية كبيرة.
إذا كان المريض ذا ثقة بهذا الطبيب الذي يملي عليه شروطه، تفعل كذا ولا تفعل كذا ويأتي يبنجه ويسلب إرادته بعد أن يوقع بالموافقة على العملية، فإذا وافق على العملية ومات فليس له دية ما دام الطبيب مشهوراً مجرباً، لا شخصاً متطبباً يتعلم الطب في أجسام الناس، فإنا نجد المريض في أمر بدنه -الذي نهايته الموت بهذا أو بذاك- يسلم كل التسليم، ويُسلب الإرادة والإحساس، ويقطع ويمزق ويخيط ويرقع فيه الطبيب الكافر كما شاء.
وبعد أن ينتهي يقال له: يا دكتور! ما رأيك؟ إن شاء الله العملية تنجح! إذا كان هذا التسليم في أمر بدنك، فكيف برب العالمين يُعطي رسوله صلى الله عليه وسلم حق الحكم فيما شجر بينكم؟!.
انظر الصورة العملية! انظر التشريع! من أول آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:٥٨] ، ومن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:٥٩] ، ومن قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:٦٠] .
أي: فلماذا لا يحكمونك؟ ولماذا لا يرضون بحكمك وأنت تأخذهم بالرفق والحكمة، وأنت بالمؤمنين رءوف رحيم؟