للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق]

قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناسُ) بالرفع، ورواية أخرى بالنصب: (إن مما أدرك الناسَ) وفاعل (أدرك) في الأولى: الناسُ، وفي الثانية: ما حُكي من كلام النبوة الأولى.

ومهما يكن فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن من كلام النبوة الأولى ما أدرك الناس أو أدركه الناس -أي: في زمنه صلى الله عليه وسلم- ومن هذا الكلام هذه العبارة: (إذا لم تستح) قيل: بحذف الياء وبإثباتها؛ لأنها إما من الحياء، وإما من الاستحياء.

الحيا: ضد الموت، والحياء: هو الخلق والغريزة، فمن أثبت ياءً يكون حذف الياء الأخرى: استحييتُ، ومن أثبت الياء يكون حذف الياء الأولى لحرف الجزم (لم) ، ومن حذف الياءين ولم يثبت شيئاً (من الحياء) .

وقوله صلى الله عليه وسلم هنا يشعر بارتباط النبوات كلها، وأن مما وصلنا وأدركناه من ذاك الكلام مما لم يُغير أو يُحرف أو يُبدل هذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم.

ومن جانب آخر: الحديث في جملته حثٌ على الحياء، وهو عند العلماء من أعلى الأخلاق ومكارمها وذروتها، مما يُعطي لنا دلالةً واضحة أن مكارم الأخلاق قدر مشترك بين النبوات وبين جميع الرسالات، ويؤيد هذا ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) هناك مكارم أخلاق في الرسالات الأولى، وهناك مكارم أخلاق جاء بها الأنبياء المتقدمون، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء يتمم ما جاء به من قبله.

وإذا نظرنا إلى هذا الحث الشديد منه صلى الله عليه وسلم على لزوم الحياء وهو قمة الأخلاق نجد أن أهم ما في سلوك المسلم وأهم ما في تعاليمه هو مكارم الأخلاق، ولذا المولى سبحانه مع تكريمه لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم بكل أنواع التكريم حينما وصفه سبحانه في ذاته، وصفه بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] .

وهكذا يقول العلماء: من كرمت أخلاقه، وحسن سلوكه، ربما ترك المعاصي حياءً من الله.

ومن الناس من لم يعص الله مروءةً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه) يعني: يترك عصيان الله حياءً من الله، وقد يترك المعصية مروءةً وإباءً، كما جاء عن هند عند بيعة النسوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا يزنين) ، قالت: (يا رسول الله! أوتزني الحرة؟!) تستبعد وتستنكر، ولا يخطر في بالها أن الحرة الأبية ترضى أن يعلوها رجل غير بعلها!.

إذاً مكارم الأخلاق هي حفاظ الأمم والأفراد.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ودريد بن الصمة في أول ظهور النبي صلى الله عليه وسلم أرسل ولده من الطائف، وقال له: انزل إلى مكة واسمع من هذا الرجل الذي يذكرونه، واعقل لي ما يقول، فذهب ورجع وقال: يا أبت! إنه يأمر بالصدق في الكلام، وبصلة الأرحام، وبإطعام الطعام، وأداء الأمانة، وكذا وكذا، فقال: يا بني! إن لم يكن ديناً فهو من مكارم الأخلاق.

إن لم يكن ما يقوله ديناً بعث به من الله ووجب اتباعه عليه طاعة لله فهو مكارم أخلاق لا يعيبها العقلاء، وجميع الأديان مما وصل إلينا تدعو إلى تلك الأخلاق الفاضلة، كما اتفقت جميع الديانات على الحفاظ على الضروريات (الكليات) الخمس: الدين، والعقل، والنفس، والعرض، والمال.