[عدد ركعات الضحى]
أما عدد الركعات فقد ذكر ابن عبد البر في الجزء الثالث عشر من التمهيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما دعي إلى الطعام في بيت أم سليم فقال: (أين تريدون أن أصلي لكم؟ يقول أنس: فقمت إلى حصير قد درس من طول اللِبث أو اللُبث فنضحته بالماء، فصلى، وصففت خلفه أنا وفلان، والعجوز من ورائنا) ، وبعضهم يقول: صلى ثمان ركعات، وفي روايات أم هانئ: (يسلم من كل ركعتين) ، وفي حديث ابن عمر (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) .
وعلى كلٍ فالروايات ثابتة في صلاة الضحى، مثل هذا الحديث عند مسلم: (ويجزئ عن ذلك كله ركعتا الضحى) ، وكم تكون صلاة الضحى؟ يتفق العلماء على أن أكملها ثمان، وأوسطها أربع، وأقلها ركعتان.
ويذكر البيهقي: أن أقصاها اثنتي عشرة ركعة، ولكن الحديث فيه ضعف ولم يأخذ الجمهور به.
إذاً: أقل صلاة الضحى ركعتان، وأوسطها أربع، ونهايتها ثمان كما عند الجمهور، وعلى هذا ثبتت مشروعية الضحى من حيث هي.
لماذا اختصت صلاة الضحى بهذا دون غيرها من النوافل؟ وما هي النوافل؟ لكل فريضة في الإسلام نافلتها: فالشهادة التي هي مفتاح الإسلام تجب في العمر مرة، ولكنها تتعدد في كل صباح ومساء نافلة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض في العمر مرة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦] ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فبمقتضى هذه الآية أصبح فرضاً على كل مسلم أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواجب يتأتى بمرة ما لم يأت ما يدل على التكرار، وقد جاء في هذا ما يدل عليه: (حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: آمين آمين آمين، فقالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمن، علامَ أمنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: شهر رمضان من أدركه ولم يدخله الجنة باعده الله فقل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة باعده الله في النار فقل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار فقل: آمين، فقلت: آمين) اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ويأتي الحديث الآخر: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) إلى آخره.
نأتي إلى أركان الإسلام الأخرى: الصلاة وهي عماد الدين، لكل فريضة نافلتها، يتفقون على القبلية ويختلفون في البعدية، فالصبح قبله ركعتان، والظهر قبله ركعتان وبعده ركعتان، والرواية الأخرى: أربع وأربع، والعصر قبله أربع ركعات، والمغرب بعده ركعتان أو ست ركعات، والعشاء بعدها ركعتان.
ثم تأتي بعد ذلك النوافل غير المرتبة مع فريضة: فتأتي صلاة الليل بلا عدد ولا حد، كما بيّن سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:١-٤] ، ولا حد في ذلك على التحقيق، وكان السلف بعضهم يقوم الليل بكتاب الله كاملاً، وبعضهم يقوم الليلة بسورة الفاتحة.
يأتي بعد ذلك إقامة القائلة -أي: الصلاة بين الظهر والعصر- وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يحيي القيلولة، فقيل له في ذلك، فقال: الناس نيام وأحب أن أعبد ربي، مع أن وقت القيلولة يستعان بها على قيام الليل، وابن عمر هو الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: (نعم العبد عبد الله بن عمر لو كان يقوم الليل) كما روت ذلك حفصة رضي الله عنها، يقول عبد الله: ما نمت ليلاً بعد أن سمعت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يقوم القيلولة بين الظهر والعصر.
وكما جاء عن سعيد بن المسيب: أن رجلاً قال له: إن بني فلان يقيمون الهاجرة، يذهبون إلى المسجد في الظهر ويقيمون هناك إلى صلاة العصر يتعبدون، فهل تستطيع أن تفعل مثلهم؟ قال: يا ابن أخي! ليست هذه بالعبادة، العبادة تأمل في كتاب الله وأحكامه، وبيان أمره ونهيه إلى آخره.
ومنها: الصلوات ذوات الأسباب من كسوف، وخسوف، واستسقاء، وجنازة إلى غير ذلك.
قالوا: لقد خص النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى بالذات؛ لأنها ليست مرتبطة بفريضة تتممها.
إذاً: الضحى ليست مرتبطة بغيرها، فركعتا الفجر مرتبطة بالفجر، أما الضحى فلا، وحينما كنت أبيّض تتمة أضواء البيان في قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:١-٢] ، {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:١-٢] ، يلفت النظر هنا أن الله يقسم سبحانه فيقول: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:١-٢] ، تقول: سجى الليل: إذا غطى بظلامه، فلان مسجّى، يعني: نائم مغطى، إذاً: الليل الساجي: هو الليل الذي غطى الكون بظلامه، وهذا أقوى أوقات الليل في الظلام، ويقابل هذا في النهار الضحى، وكأن وقت الضحى هو ألطف أوقات النهار كله بالنسبة إلى أشعة الشمس؛ لأن قبل الضحى لم يكتمل نورها، وبعد الضحى يشتد حرها، ثم تأتي إلى الزوال، ومن الزوال إلى الغروب تبدأ في النقصان.
إذاً: أكمل أوقات النهار هو وقت الضحى.
ويقسم المولى سبحانه بأوثق الزمنين وأقواهما في موضوعهما: الليل الساجي والضحى في إشراقه مع هدوء الشمس، وإذا جئنا إلى السورة الثانية: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:١-٢] ، وأكمل الليالي وأفضلها هي التي فيها القمر يكتمل، وهي الأيام البيض: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر؛ لأن لياليها مضيئة بضوء القمر، فهي بيضاء ونهارها أبيض بأشعة الشمس.
إذاً: الضحى أفضل أوقات النهار، ويكون العبد في إشراقة نفسه، وفي وضوح ووضاءة وإشراقة قلبه ونور ربه معه، يأتي في هذا الوقت اللطيف ويركع لله ركعتين، فتكون شكراً محضاً لله لا على مقابل شيء، ولهذا فللضحى خصائصها، ويكون لهذا الوقت شرفه واختصاصه دون بقية الأوقات، ولهذا تجد أقوى ما تكون النفس إشراقاً وأقوى ما يكون البدن نشاطاً في ذلك الوقت، فإذا زاد بعد ذلك واجهه حر الشمس، وواجهه عناء النهار إلى غير ذلك من العوامل الأخرى، وإذا نظرنا إلى ما يوحيه قول ابن عباس في قوله سبحانه في خصلة داود: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:١٨] والعشي: ما بعد الزوال إلى المغيب، والإشراق: هو إشراق الشمس، يقول: كانت العصر والضحى واجبتان على داود، فبقيت العصر عندنا، ورفعت الضحى عنا، أي: من باب الفريضة.
وقوله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:٢٣٨] يختلف العلماء في الصلاة الوسطى ما هي؟ فـ مالك رحمه الله يقول: الفجر؛ لتوسطها بين العشاء وبين الظهر، وهما أبعد الوقتين، ولثقلها على المنافق.
والجمهور يقولون: هي العصر.
لو جئت إلى صلوات خمس في دائرة، فأي نقطة على دائرة المحيط تكون منتصف الدائرة، فما الذي خص نقطة العصر في ذلك؟ لو تأملنا إلى الوسطية من حيث الزمن وأوقات الصلاة وإقامتها؛ نجد طرفي النهار: الفجر في أوله والعشاء في آخره، فإذا جئنا ما بين طلوع الفجر إلى زوال الشمس، ففيه صلاة الفجر وصلاة الظهر بعد الزوال، وهذا الزمن طوله ست ساعات تقريباً، وإذا جئنا من زوال الشمس إلى غروبها وجدنا ست ساعات أيضاً فنجد الظهر في منتصف النهار ونجد المغرب في نهاية النهار، وبين الفجر والظهر كما بين الظهر والمغرب، وفي الوسطين نجد صلاة العصر في ربع المسافة بين الزوال والغروب، ونجد الضحى في ربع المسافة بين الإشراقة والزوال، فالضحى متعادل مع العصر سواء بسواء.
إذاً: الضحى تعادلة الصلاة الوسطى التي نص القرآن عليها.
قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ} [النور:٣٦-٣٧] .
الغدو: الغدوة وليس ذلك الفجر إنما بعد طلوع الشمس، والآصال: بعد العصر وقبل المغرب.
إذاً: قبل كل شيء: لصلاة الضحى سر يعلمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن لو ذهبنا نلتمس أسباب أو مسببات هذا التخصيص والتفضيل ربما وجدناه على النحو الذي مر، والله سبحانه وتعالى أعلم.