[طلب الإطعام من الله تعالى]
ثم قال: (يا عبادي!) وكلما تكرر هذا النداء فإنه يشعر بتجدد الرحمة والعاطفة من الله.
قال: (كلكم جائع إلا من أطعمته) .
يمكن أن تقول: أنا شبعان، والخزائن والمستودعات مليئة، فيقال لك: والله إنك جئت إلى الدنيا جائعاً عرياناً، فمن الذي أطعمك؟ الله، من الذي كساك؟ الله, أول ما تأتي إلى الدنيا؛ لو وضعت فوق جبل من الخبز أو في نهر من العسل ما استطعت أن تتناول منه ذرة، ولكنه سبحانه يدر لك من ثدي أمك الحليب، ويستخلص لك من بين الدم واللحم هذا الطعام الذي يشبعك، والذي فيه كل عناصر حياتك، أجمع الجميع أنه لا غنى للطفل عن حليب أمه، لأن كل ما يحتاجه الطفل من جوانب الغذاء يجعلها الله سبحانه وتعالى في هذا الثدي، فمن الذي در هذا الدر لك؟ ثم بعد ذلك إذا نما الجسم ولم يعد اللبن بخفته يكفي لنموه وكان لابد من قضم الطعام؛ أنبت لك الأسنان وتناولت الطعام حتى أشبعك، ثم كل ما في مستودعاتك ومخازن العالم من أين جئت بها؟ {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:٢٤] ينظر المصدر والمبدأ {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:٢٥-٣٢] .
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: انظر إلى هذا السياق: {شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} ، لو جئت بأصبعك لتغرسه في الأرض ما استطعت، ولكن الله يشق الأرض عن ذاك النبت اللين الضعيف الرهيف.
هل كنت تشقق الأرض عن كل النباتات التي تزرعها؟ لا والله، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} [الواقعة:٦٣-٦٤] (أأنتم) : استفهام تعجب، أي: أما تستحون من أنفسكم! {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:٦٤] .
هب أن النبات نبت، فمن أين لك القدرة على أن تخرج الثمرة من هذا الزرع؟ عود القمح نبت، أين القدرة بغير الله سبحانه أن يحمل هذا العود تلك السنبلة وتخرج من خلاله، وتأتي بتلك الأبراج في داخلها، وكل حبة لها برج مستقل؟ طلعت السنبلة، من الذي أجرى فيها الماء ثم عقد الحبة؟ من الذي لقحها؟ ولذا قال الله: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:٦٥-٦٧] .
ولذا يقول الوالد رحمة الله تعالى علينا وعليه: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس:٢٤-٢٦] ، من الذي يصب الماء من علو؟ أعندك خزانات هناك في يدك محبسها؟ لا والله، ومن الذي يسوقه إلى بلد ميت فيحييه، وانظر إلى قوله: {صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} يعني: برفق، ولو تدفق مرة واحدة لهلك العالم، لكنه ينزل قطرات بسيطة على رأسك، وبعد ذلك تلتقطه الأرض.
ثم انشقت الأرض عن الحب: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} سبحان الله! تربة واحدة وماء واحد والنبات مختلف يسقى بماء واحد، ولكن هل يستوي في الأكل؟ لا، فمنه متشابه وغير متشابه، العنبة بجانب الليمونة، والبرتقالة بجانب النخلة، الحنظلة تنبت على شاطئ الوادي، فمن الذي يُغذي هذا وذاك؟ ولو أخذت ورقة العنب ما وجدت فيها من الحلاوة شيئاً، تأتي إلى عود الفلفل وبجانبه الباذنجان؛ هذا أحمر مجوف وفيه النار، وهذا أسود بارد لا شيء فيه، وبجانبه الطماطم فيها خزان من الماء الأحمر، وكله في تربة واحدة.
إذاً: كلكم كما قال سبحانه: (كلكم جائع إلا من أطعمته) ، حينما يمسك الله الماء ماذا كانت نتائج بعض الدول التي تشتكي القحط أو الجدب؟ تهلك الأموال والأنفس.
وقد جاء أعرابي والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال: (يا رسول الله! سل الله أن يسقينا، هلكت البهائم وتقطعت الطرق وجف الشجر.
إلى آخره، فيرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ويستسقي ربه وهو على المنبر، فيقول راوي الحديث: فتنشأ سحابة كالترس -الترس التي في يد الفارس حينما يقاتل- وليس بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، حتى إذا توسطت كبد السماء انتشرت ثم أمطرت إلى يوم الجمعة الثانية، ثم يدخل رجل من ذاك الباب هو ذاك الرجل أو غيره، فيقول: يا رسول الله! ادع الله أن يمسكها عنا، هلكت البهائم وتقطعت الطرق، فيرفع صلى الله عليه وسلم يديه ويسأل ربه ويقول: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام وعلى منابت الشجر وبطون الأودية) الآكام: جمع أكمة، يريد: على الجبال التي هنا وهناك، وعلى الوديان ومنابت الشجر.
فيقول الراوي: فخرجنا نمشي في الشمس؛ هذا لمن حدث؟! أولئك أصحاب الذرة ما رأوا هذا الشيء، لكن لا حول ولا قوة إلا بالله، ما داموا قد ختم الله على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة كيف ينظرون إلى آيات الله؟ إذاً: الهداية من الله، ولذا أيها الإخوة! فالواجب على العبد إذا رأى إنساناً هذا حاله أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! انحرف عن الجادة وانزلقت به قدمه، ولا يقف موقف الشامت؛ وليعلم أن الهداية بيد الله، وما الفرق بينك وبينه عند الله؟ فليس لك سابقة نسب عند ربك، وليس هو بعيداً عن مخلوقات ربه، والله يبتلي هذا ويمتحن ذاك، ويمن على هذا ويمنع ذاك.
ويروون عن ابن مسعود قوله: (والله إني لأخشى إن سخرت من كلب أن يمسخني الله كلباً) ؛ فإذا وجد العاقل إنساناً مبتلى ببلاء، فأولاً وقبل كل شيء يحمد الله أن عافاه من هذا الابتلاء؛ لأنه قادر أن يعافيه ويبتليك، فإذا حمد الله على العافية فليسأل الله السلامة لهذا المبتلى.
وفي نظري: أن مثل المستقيم والمنحرف كشخص معافى مبصر يمشي على الطريق، فوجد حفرة على جانب الطريق وشخصاً قد سقط فيها، هل يا ترى من العقل ومن الإخوة الإنسانية -لا أقول الإسلام والإيمان- أن تراه متردياً في الحفرة وتأتي بالتراب تهيله عليه، أم تمد له يدك وتحاول أن تنقذه من تلك الورطة؟ من حقه عليك أن تنقذه، وتعمل ما في وسعك لذلك.
إذاً: على الداعية إلى الله والمسلم العادي أن يحمد الله سبحانه وتعالى أن عافاه مما ابتلى به غيره، وأن يسأل لغيره المعافاة مما ابتلي به.
(كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم) ولذا فالعبد يحمد الله وحده على فضل الهداية، وأيضاً: من حقه علينا صلى الله عليه وسلم عرفاناً بالجميل، ومقابلةً بالإحسان: أنه كلما جاء ذكر اسمه أن نصلي ونسلم عليه، اللهم صل وسلم وبارك عليه.
لو جئنا بخطوة أمامية أيضاً: صب الماء، ونبت النبات، وجاءت الثمرة، وأودعت في المستودع، ثم جاءت إلى المخبز، ثم إلى الطهي، وقدمت بين يديك، من الذي يطعمك هذا الطعام الذي على السفرة أمامك؟ من الذي يُقدرك على أن تبتلعها إلى معدتك؟ فكم من غني لا يستطيع أن يأكل عشر ما يأكل أحد الخدم عنده! أعتقد أن البعض الذين يقرءون الدوريات السارية عن ملك الحديد فورد، الذي كان يعيش بربع المعدة، وكان يرى العمال، فمنهم الذي يأكل قرصين وثلاثة أقراص، فكتب للعالم كله: أي طبيب يجعلني أستطيع أن آكل نصف قرص في وقت واحد فله نصف مالي.
وذلك بسبب قرحة في المعدة، وقصة معدته أنه ما بقي له منها إلا شيء بسيط، فيأخذ أشياء على فترات، ماله بين يديه ولكن لم يطعمه ربه، (كل جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم) .