للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة صلح الحديبية ومواقف بعض الصحابة منه]

ونأتي إلى مثال قريب، قد يكون اجتهاداً في الدين، وقد يكون لك رغبة في شيء، ولكن السنة على خلافه.

في صلح الحديبية، حينما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح بينه وبين المشركين على شروط الصلح، وكانت عجيبة جداً، لو عرضناها على العقل وميل الهوى فإنه يرفضها؛ لأنها كانت كما يقولون في العرف السياسي أو العسكري: إملاء القوي على الضعيف؛ لأن الصلح عقد على رجوع المسلمين من مكانهم ولا يصلون إلى مكة.

والمسلمون قدموا من المدينة وعندهم البشرى من رؤيا رسول الله بأنه سيأتي البيت، وقد مرت عليهم ست سنوات وهم مهاجرون لم يروا مكة، وكانوا قد فرحوا بالبشرى، ثم يمنعون من ذلك! ولو منعوا قبل ذلك لكان هيناً، ولكن عندما يأتون إلى النهر ويمدون أيديهم للشرب، فيقال لهم: ارفعوا أيديكم، فهذا صعب جداً.

وصلوا إلى حدود الحرم، ونزلوا على الحد بين الحل والحرم.

فكان من الشروط التي اشترطتها قريش على المسلمين: - ترجعون هذا العام وتعتمرون من العام المقبل.

- وهدنة بيننا وبينكم عشر سنوات.

- وأن الذي يأتيكم منا مسلماً بدون رغبتنا تردونه علينا، والذي يأتينا منكم لا نرده عليكم.

كيف هذا؟! الذي يأتينا منكم مسلماً لله نرده إلى الكفر، والذي يأتيكم منا مرتداً عن الإسلام تأخذونه ولا تردونه؟! لم لا تجعلونها واحدة بواحدة؟ إما أن يُرد الجميع، أو يُترك الجميع.

فيقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يأتي عمر رضي الله تعالى عنه يقيس المسألة عسكرياً مع إيمانه بالله، ليس لهوى أبداً، فيذهب إلى أبي بكر ويقول: يا أبا بكر! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ أي: لماذا نقبل هذه الشروط؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا عمر! إنه رسول الله فالزم غرزه، أي: هذا رسول الله، فكن تحت ركابه، وامش في ظل بعيره، ولا تتطاول ولا تعارض ولا تقل شيئاً، فما هو بالشخص الذي سنعرض آراءنا عليه ونوجهه، بل ربه هو الذي يوجهه.

ثم ذهب إلى رسول الله وقال نفس المقال، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم نفس

الجواب

(يا ابن الخطاب! إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً) .

وفعلاً قبِلوا فحلقوا شعورهم ونحروا هديهم وتحللوا ولم يتحرك أحد هم جاءوا للعمرة! ولكن يحدث شيءٌ عجيب، وتحدث أمور هي مقاييس في الإسلام ونحن بعيدون عنها عند المفاوضة للصلح ينتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ليبلغ قريشاً بأنا جئنا عُمَّاراً ولم نأت مقاتلين، فائذنوا لنا أن نعتمر ونخرج.

فقال لـ عمر: (اذهب يا عمر) فيقول: أنت تعرف عداوتي لهم يا رسول الله، وليس هناك من يحميني، لكن عليك بـ عثمان فهناك من أهله من يحميه.

وينتدب عثمان، فيذهب ويفاوضهم فيقولون: أما أنت يا عثمان فدونك البيت فطف به واقض عمرتك أيّ سبق وأيّ شرف هذا، لكن عثمان في ارتباطه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي محبته لرسول الله يقول: والله لا أطوف بالبيت ورسول الله ممنوع عنه.

سبحان الله! يطوف ولو واحد منهم فقط، ليصدق الرؤيا.

فيرجع ولم يطف، أين المقاييس التي تحدد هذا الحب؟! بأي مقياس إلكتروني أو ذري يقاس هذا الحب؟ إن مقياس الإيمان هو الذي يحدد هذا فعلاً، وقد كافأه رسول الله على ذلك في غيبته حينما تأخر عثمان وبلغه أنه قد قتل فبايع الصحابة جميعاً رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وعدم الفرار، ولما بايعوا رسول الله بأيديهم وصافحوه على البيعة فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول باليد الأخرى: (وهذه يد عثمان) يد رسول الله بدلاً عن يد عثمان! أظن أن هذا فيه إشارة خفية بأن عثمان لم يقتل؛ لأن البيعة لا تكون عن ميت، وفيه إشعار بأنه حي، وفيه شرف وتكريم لـ عثمان.

ويكتب الله الرضا فيقول: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:١٨] أي سكينة لجماعة ذاهبين يعتمرون ويبايعون على مداهمة أهل مكة في عقر دارهم بعددهم وعدتهم؟! فهذا لا يكون أمراً عادياً أبداً، لكنها سكينة من عند الله، وجعل الله هذا الصلح الذي تم فتح قريباً.

يهمنا أن عمر رغب في أمر وردَّه أبو بكر، وأبو بكر لا شك أنه كان يرغب فيما يرغب فيه عمر، ولكن هواه وميوله ورغباته تبعاً لما جاء به رسول الله، لذا كان عمر يقول: (فعملت لذلك أعمالاً) أي: كنت أعتق وأصوم تكفيراً لتلك الكلمة.

وقد ذكر الله في القرآن الكريم في نهاية سورة الفتح قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح:٢٧] إلى آخرها، وبعد سورة الفتح مباشرة تأتي سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:١] .

من هنا منطلق جديد، وهو أنه لا يصح إيمان العبد إلا إذا كان هواه تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧] ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم مبينا للأمة: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .

إذاً: أنت -مهما كنت- إن غلَّبت الهوى ومِلت عن الاتباع فأنت إلى الهوان، وإن عملت عملاً ليس عليه أمر رسول الله، ولست متبعاً فيه لرسول الله؛ فهذا العمل مردود، فكيف يضيع الإنسان بين الهوان ورد العمل؟ ولذا كان على المسلم أن يحمل نفسه أولاً بالاجتهاد في الدعاء أن يوفقه الله لاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والله أسأل أن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين أحسن ما جازى نبياً عن أمته، ونسأله تعالى أن يرزقنا وإياكم محبته ومحبة سنته.

وهذا فضل من الله عندما يحبب الله للإنسان الإيمان: {وَلكنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:٧-٨] ، وبالله تعالى التوفيق والله أعلم.