للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سلطات نصرة المظلوم في الإسلام]

لو أن كل إنسان تجنب الظلم لاستغنينا عن الداخلية والشرطة وأغلقنا السجون، واستغنينا عن المحاكم والقضاء، واستغنينا عن السلطة التنفيذية.

وكل دولة في العالم لها سلطات ثلاث: الأولى: سلطة تشريعية لتشرع الحكم والنظام، السلطة التشريعية في الإسلام لله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى:١٣] ، ولا يوجد أحد له حق في التشريع مع الله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:٢١] ، فالسلطة التشريعية لله، يبلغ عنه رسوله، والعلماء ورثة الأنبياء، فهيئة الإفتاء هي النائبة فيما يأتي من نوازل جديدة فتصدر فيها فتوى على ما يوافق كتاب الله وسنة رسوله.

إذاً: السلطة التشريعية في الإسلام هي لكتاب الله وسنة رسوله.

الثانية: السلطة القضائية، وهي الميزان الذي يزن الأحداث على النظام وعلى التشريع.

الثالثة: السلطة التنفيذية: وهي التي تطبق حكم القاضي بالقوة.

وقد أجمل سبحانه وتعالى تلك السلطات الثلاث في كتابه في آية تضمنت، نظام الدولة بكاملها في قوله سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:٢٥] .

هذه مقومات الدولة: السلطة التشريعية: رسل ببينات وكتاب، فالبينات تثبت أنهم رسل، وإذا ثبتت رسالة الرسول وقلنا: نشهد أن محمداً رسول الله والتزمنا برسالته وبما جاء به، فهذا رفض لما نخضع له خلافاً لما جاء به، لأننا التزمنا بها، كما أننا لا نعبد إلا الله؛ لأنه عندما نقول: لا توجد آلهة إلا الله، فنحن ملزمون بأن نأله الله وحده، فمن عبد غير الله فقد ناقض لا إله إلا الله، وكذلك من اتبع غير رسول الله وابتدع من عنده بدعة فهو ناقض لقوله: محمد رسول الله.

إذاً: أرسلنا رسلنا بالبينات ومع الرسل الكتاب، والكتاب جاءنا من عند الله، والكتاب حجة لك أو عليك، فمن أخذ به فهو حجة له، ومن أعرض عنه فهو حجة عليه، فالكتاب للتشريع، وكما يقول الشافعي رحمه الله: (سلوني عما شئتم يا أهل مكة أجبكم عنه من كتاب الله، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:٣٨] ، فهم من فهم وأخطأ من أخطأ) ؛ لأن الكتاب يساير الأمة إلى يوم القيامة، وفيه تشريع الدين والدنيا، والحلال والحرام، وما تأخذ وما تترك.

هذا هو مصدر التشريع؛ أعني كتاب الله، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو مرجع الناس في حياته، ثم من بعده خلفاؤه الراشدون، ومن بعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.

إذاً: السلطة التشريعية في الكتاب والسنة والعلماء أمناء على ذلك.

وقوله: {وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:٢٥] ليس المقصود الميزان ذا الكفتين أو الميزان الإلكتروني، إذ كل ما يفرق بين طرفين فهو ميزان، فالقاضي بيده ميزان العدالة، والأستاذ بيده ميزان الدرجات للطلاب، والأب بيده ميزان الأبوة بين أولاده، والأم بيدها ميزان البيت في رعايته: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) ، والحكمان اللذان يبعثهما الحاكم للحكم بين الزوجين ميزان، وكل من تدخل بين اثنين فهو ميزان.

بالقسط: والقسط منتهى العدالة، وقبضة هذا الميزان بيد القضاء، والعدالة كما قالوا: من العدلة وهي شق الحمل، فإذا كانت العدلتان من حمل البعير متوازيتين فالبعير يمشي معتدلاً، والكفتان متساويتان، وإذا ثقلت إحدى العدلتين مالت الكفة ومال الحمل وعجز البعير عن أن يمشي، فالعدالة هي الميزان في القضاء، فإذا جاء إنسان وأخذ مال إنسان، عرض على المحكمة وعلى الميزان: من أي أنواع المال أخذ هذا؟ وهل هو بحق أو بغير حق؟ وسرقة أم نهب أم سلب أم اغتصاب أم خيانة أمانة؟ ويحكم فيه الميزان ويبين: أنت سارق أو لست بسارق، أنت ظالم أو لست بظالم.

والسلطة التنفيذية تأتي بالقوة فتسجن وتضرب وتنفذ الحكم.

إذاً: لو أن العالم أخذ بهذا الحديث: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظّالموا) ، ووقفوا عند ذلك لانتهت المشكلة، الكتاب قائم، والميزان لا يحتاج أن يوزن فيه؛ لأنه ليست هناك مظالم وليست هناك اعتداءات، وكلٌ قد وقف عند حده، ولصار حال الناس كما تولى القضاء عمر سنة فلم يتخاصم إليه اثنان.

ولذا جاء أعرابي إلى علي رضي الله تعالى عنه فقال: (ما بالك وبال أصحابك من قبلك، اختلف الناس عليك ولم يختلفوا على من كان قبلك؟ قال: لأنهم كانوا يتأمرون على أمثالي وأنا أتأمر على أمثالك) ، كان أبو بكر وعمر يتأمرون على علي وعثمان وطلحة والزبير وفلان وفلان من سادات الناس، ممن لا يخطئون الخطأ الفاحش ولا يعتدون على غيرهم؛ لكن عندما جاء الدور على علي كان هناك كثير من أطراف الناس وأراذلهم ليحكم فيهم.

إذاً: حينما يقف كل واحد من الناس عند حده يستقر الأمن وتحصل الطمأنينة، ويتوفر الخير، ويرتفع النزاع في كل جانب من الجوانب، وبهذا تكون هذه الجملة من الحديث القدسي وحدها كافية لإصلاح العالم كله.