للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحياء فضل من الله وهبة]

وهنا مبحث يبحثه علماء الأخلاق والشريعة، فعلماء الأخلاق يقولون: ما هو الحياء؟ وهل هو مكتسب أو موهوب؟ ومعنى (مكتسب) : يتخلق به الإنسان حتى يصبح خلقاً له، أو موهوب هبة من الله، والتحقيق في ذلك أن أصله هبة من الله، ولكن العبد يزكيه وينميه باكتسابه، أي: بالحفاظ عليه وبالتأدب والتعلم.

وأكثر خصال الأخلاق هبة من الله، وفي الحديث: (عودوا أبناءكم البر فإن البر عادة) إذا لم يكن خُلقاً للإنسان وأخذ يتعود عليه انطبع فيه، كأن يكون إنساناً بخيلاً فإذا جاء وعاشر كرماء وتعود منهم البذل قد يجاريهم مجاملةً وحياءً، ثم مع طول الزمن يصبح كريماً مثلهم، وهكذا الشخص قليل الحياء إذا خالط من هو أشد حياءً منه وعاشر من هو أحسن منه، فقد يجامل ويكتسب الخلق مع طول الزمن فيصبح الحياء خلقاً له.

وهكذا لما جاء وفد عبد القيس إلى المدينة بادروا بالإسراع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا رواحلهم وأوعيتهم وأمتعتهم، وكان أميرهم أشج عبد قيس وكان رجلاً عاقلاً كيساً، تأنّى وقام على رواحل القوم وعقلها، وقام على أمتعتهم وجمعها وحفظها، وجاء إلى عيبته وأخرج ثياباً نظيفة وغيّر ثياب السفر، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب حسنة يمشي بتؤدة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أفسح له بجواره، وقال: (هاهنا يا أشج!) وهم معذورن؛ لأنهم يمشون مسيرة شهرين على أمل أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلوا المدينة ما طاقوا صبراً حتى أسرعوا للقاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بعقله وحلمه وصل والحمد لله، فأفسح له صلى الله عليه وسلم بجواره وقال: (ها هنا، ثم قال: إنك رجل فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال: يا رسول الله! خلق تخلقت به أم جبلة جبلني الله عليهما؟) سؤال لطيف، هل هذا خُلق اكتسبته بالتخلق والتعود وأدب قومي إليّ أو جبلة جبلني الله عليها؟ قال: (بل جبلة جبلك الله عليها، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله) .

ولذا أيها الإخوة! مما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن أعطيات الله لخلقه جميعاً على قدر المساواة) الله سبحانه وتعالى ما أعطى مخلوقاً أكثر من مخلوق، كيف وفيهم الغني والفقير؟ قال: لا.

إن الأخلاق أرزاق، فإذا منح إنساناً غنىً بمال ولم يمنح الآخر قد يعوض ذاك قليل المال وافر الأخلاق، ولذا في الحديث هناك في

السؤال

(مرني بأمر يا رسول الله! يدخلني الجنة، أو بعمل يدخلني الجنة، أو يحبني الله ورسوله، قال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس، واستغن عمن شئت تكن أميراً، واحتج لمن شئت تكن أسيراً) الشخص إذا كان مولعاً بشيء لا يستطيع أن يستغني عنه، وإذا افتقد ذلك الشيء كان أسيراً له، قل أو كثر مهما كان، وإذا استغنى عن كنوز العالم واستغنى عن الملوك كان ملكاً بينهم.

إذاً: الغنى بالمال أمر نسبي، ولذا يقول علي رضي الله تعالى عنه: لو نظرت في أعطيات الله لعباده لوجدتهم متساوين، إن نقص على هذا في ماله زاد في صحته، وإن نقص في صحته زاد في عياله، وإن نقص في عياله زاد في هدوء باله وعقله وحلمه وطمأنينته، وإن نقص من هذا أو ذاك زاد في توفيقه لعمل الخير، ولو جمعت كل ما أعطى الله العبد بجميع معانيه وجمعت غير ذلك في غيره لوجدتها متقاربة.

إذاً: الأخلاق أرزاق، فكما يرزق الله العبد مالاً وفيراً، كذلك يرزق العبد خلقاً واسعاً، وكما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم) قد تسع الدنيا كلها بمكارم أخلاقك، تلقى كل واحد بوجه طلق، وتخاطبه بأسلوب حسن، وتعده خيراً، فيتقي منك بذلك، ولو أردت أن تُعطي جميع الناس وترضيهم من مالك لعجزت عن هذا.

يذكرون عن معاوية رضي الله تعالى عنه: (أنه جاءه أعرابي وقال: يا أمير المؤمنين! صل الرحم الذي بيني وبينك، قال: أنت لك رحم معي؟ قال: نعم، قال: وأي رحم هذه؟ قال: من آدم وحواء -رحم آدم وحواء يجمع بيني وبينك ألسنا كلنا من حواء وآدم- قال: نعم، والله إنه لرحم كريم وحق له الصلة أبشر، وأخذ وكتب لخازنه كتاباً ودفعه إليه وقال: اذهب إلى بيت المال يعطيك صلة الرحم، فذهب ومعه خطاب من أمير المؤمنين، فلما فتح الخازن الكتاب قال: مرحباً، وجاء وأعطاه درهماً واحداً، قال: عجيب! أمير المؤمنين يصل رحمه بدرهم! قال: هذا خطاب أمير المؤمنين، قال: أعطني الكتاب، أخذ الكتاب ورجع إلى معاوية، قال: يا أمير المؤمنين! تصل رحمك بدرهم واحد! وقال: يا أخا العرب! والله لو وصلت هذه الرحم التي بيني وبينك لجميع الناس ما بقي في بيت المال درهم) فهل معاوية يستطيع أن يصل الناس بالمال؟ لا يستطيع، ولكن بكلمة طيبة قد يسعهم، وكما قال: (لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انفصلت، إن شدوا أرخيت، وإن أرخوا شددت) ، الملاينة في المعاملة، والمجاملة في المعاملة، وليس من باب النفاق ولكنه المجاملة والمسايرة وفرق بينهما بعيد.