للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أمر الله للرسل والمؤمنين بتحري الطيبات]

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) ، انظر المجانسة! المؤمنون: عامة الناس، والمرسلون: هم الخواص الذين اصطفاهم الله برسالاته، فيبين صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمر يشترك فيه الجميع، وذلك لأهميته: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) ، فمثلاً قوله تعالى: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أمر الله المرسلين في جميع الأحوال بإقامة الصلاة, وأمر المؤمنين في جميع الأحوال بإقامة الصلاة، وهكذا جميع أركان الإسلام إذ أنها حق لله، وهي مطلوبة لذاتها.

وهذا الأمر هنا ينبني عليه غيره، وهو أساس لما يذكر بعده في الحديث.

الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن المؤمنين والرسل مكلفون بتكليف واحد من الله فقال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) فبمَ أمرهم سبحانه وتعالى؟ قال: (أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ)) ) ، ومتى اجتمع الرسل في وقت واحد حتى يخاطبهم الله بقوله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ) ؟ هل خاطب الله الرسل جميعاً في وقت واحد كما في هذه الآية؟! يقول العلماء: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ) جاء بصيغة الجمع، والمقصود به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تأتي صيغة الجمع في الجنس والمراد به الفرد، كما أنه قد يكون العكس، ومن الأول قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٥٤] يتفق العلماء على أن كلمة (النَّاسَ) المراد بها هنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثال آخر: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:١٧٣] ، هل القائل جميع الناس أم فرد واحد؟! فرد واحد وهو نعيم بن مسعود، فأطلق عليه لقظ: (الناس) في قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) ، فالأولى المراد بها فرد من الجنس، والثانية مراد بها الجنس كله، ولماذا هذا؟ لأن الفرد الذي استعمل في حقه اسم الجنس قام مقام جنس كامل، فقوله: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) ، المراد بالناس النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر بلفظ الناس؛ لأنه بما أعطاه الله يعادل الناس كلهم، وكما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:١٢٠] ، هو واحد لكن كان أمة؛ لأنه وحده الذي كان يعبد الله في ذلك الوقت، وأمَّة أي: إماماً قدوة، ويقول بعض العلماء: إن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ) المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توجه إليه الخطاب.

وبعضهم يقول: لا، بل قال الله لكل رسول في زمنه: كل من الطيبات واعمل صالحاً، فهو قال لكل رسول في وقته، وهنا جاءت الآية إخباراً بمجموع ما حدث وحصل من قول الله لرسله، ومهما يكن من شيء فالأمر عام لجميع رسل الله.

ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:١٧٢] ، مما يلفت النظر من الأساليب البلاغية، وبلاغة القرآن فوق كل بلاغة، أن الرسول قال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) ، وجاءت صيغة الأمر في حق الرسل: (كُلُوا مِنْ الطَيِّبَاتِ) ، والطيبات هذه لم يذكرها مقيدة، بل قال: (كُلُوا) ويكفي؛ لأنهم رسل الله يأكلون من الطيبات ويعملون الصالحات، أما المؤمنون فقال لهم: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، وأليست الطيبات التي يأكل منها الرسل مما رزقهم الله؟! بلى، ولكن هناك فرق، فلو أنك أعطيت ولدك أو صديقك مائة ريال، ثم قلت: يا فلان! اصرف مما أعطيتك، فقولك: (مما أعطيتك) تُعد مؤشراً في ذهنه بأنك تذكره بما أعطيته، ولكن لو قلت له: يا فلان! اصرف كيفما شئت، ولم تشر إلى (أعطيتك) ، فالوضع يختلف، وهكذا حينما يوجه الله سبحانه الخطاب إلى الرسل، وهم الذين يعلمون حقيقةً أن الرزق من عند الله، فهم رسل الله، فكأن الأسلوب يعفيهم من إشعار المنة في رزقه إياهم، (كُلُوا مِنْ الطَيِّبَاتِ) ، لكن المؤمنين يحتاجون إلى التنبيه، فيقال للمؤمن: كل من طيبات رزق الله التي لديك، ولذلك رتب عليه: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) ، بينما الرسل ليسوا في حاجة إلى التنبيه أو إلى أن يكلفوا بالشكر؛ لأن من طبيعة رسالتهم أن يعرفوا أن تلك الطيبات من الله، وهم يقومون بجبلتهم بشكر نعم الله، فهم رسل الله، ومقامهم ومكانتهم عظيمة، وبالنور الذي يحملونه يعرفون حق المنعم فيشكرونه، فإذا قيل لهم هنا: واشكروه، فكأن فيه إشعاراً بتقصير منهم في الشكر، وهذا لا يليق بمقام الرسالة، أما عامة الناس فهم في حاجة إلى أن ينبهوا إلى أن هذه الطيبات من رزق الله، وأن عليهم شكر النعمة؛ لأن أفراد المؤمنين ليسوا كالرسل، فالرسل ليسوا في حاجة كالأفراد إلى التنبيه بأنها من زرق الله، ولا يطالبون بشكر النعمة؛ لأن مقام الرسالة يحملهم على شكرها ولو لم يأتِ هذا التنبيه، بخلاف أفراد الناس فهم بحاجة إلى أن تدعوهم وأن تذكرهم وأن تبين لهم أن هذه الطيبات مما رزق الله، من أجل أن تقابل النعمة والرزق الطيب بالشكر.

ثم قال: {إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:١٧٢] ، وهذه أخص بعامة الناس دون المرسلين.

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يستدل بهاتين الآيتين على عموم التكليف، وأن الخطاب للمرسلين يتضمن تكليف المؤمنين، لكن هل تكليف الله للمرسلين وللمؤمنين خاص بهذا الباب؟ التكليف في هذا الحديث ورد في الطيبات، لكنه عام، فكما أمر الله المرسلين بالصلاة والزكاة والصيام.

إلى آخره، كذلك أمر المؤمنين تبعاً لجميع المرسلين.