قال صلى الله عليه وسلم:(تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) فهو لا ينكرك في الشدة بل يعرفك في الشدة، معرفة خير، ومعرفة رحمة، ومعرفة إنقاذ، كما جاء في الحديث الثابت الصحيح:(أن ثلاثة نفر آواهم المبيت إلى غار، فتدحرجت صخرة وسدت عليهم فم الغار) ، نتصور ثلاثة رجال داخل الغار، وصخرة كبيرة على فم الغار، وهم لا يستطيعون دفعها، لو كنت أنت واحداً من هؤلاء الثلاثة، ما إحساسك تجاه هذا؟ لو كنت في بيتك وجاء أحد الأولاد وأغلق الباب عليك ظاناً أنك غير موجود، فقمت لتفتح الباب فإذا بالباب مغلق عليك! فضربت الباب لكن لم يفتح لك أحد، فعندها ستقلق وتغضب وأنت في بيتك وعندك فراشك، وبعد قليل سيأتون إليك، وعندك أمل في مجيئهم ولو بعد يوم، ولو علمت أن الغيبة طويلة فيمكن أن تكسر الباب، لكن هذه الصخرة ما يمكن أن تكسر، فتصوروا شعورهم بالموت وهم أحياء، وإحساسهم أنهم قبروا وهم أحياء، وليس هناك هاتف، وليس هناك تلكس، وليس هناك جرس، وليس هناك أي وسيلة للإعلام عنهم، انقطعوا عن العالم كله، ولا يقوى العالم كله أن يعلم بحالهم، فماذا كان موقفهم؟ (قالوا: ليس لنا إلا أن نرجع إلى الله) وبأي شيء يرجعون؟ بسود الصحائف الأولى، أو بخبيئة السر؟ في هذا الموقف هل رجعوا بعدم تعرفهم إليه في الرخاء، وبنسيانهم ذكر الله في تلك الحالات الواسعة، وفي ذلك الفضاء، أو رجعوا إلى الله بما كان لهم عند الله من صالح الأعمال السابقة؟ تساءلوا: هل يعلم بحالهم أحد ممن لهم به صلة؟ ثم أيقنوا أن كل من يعرفهم يجهل حالهم إلا الله سبحانه، فقالوا: فتشوا في دفاتركم، وفتشوا عن خبايا أسراركم مع الله، فقاموا بالتوسل بالعمل الخالص لله لا بعمرو ولا بزيد، ولا بكبير ولا بصغير، فقام أحدهم يقول:(اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان كبيران، وكنت آتي بالحليب في المساء فأسقيهما، ثم أسقي أولادي، وفي يوم نأى بي المرعى، فجئت متأخراً، فحلبت لهما فإذا بهما قد ناما، فكرهت أن أوقظهما، وأولادي صغار يتضاغون جوعاً عند قدمي، وكرهت أن أقدمهم عليهما، فقمت بالإناء عند رأسيهما أنتظر قيامهما حتى طلع الفجر! اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه) ، ماذا تقولون في هذا التوسل؟ ماذا تقولون في هذا العمل؟ ما قعد إلى أن يستيقظا وينادياه، وما سقى الأولاد، وما قال لهم: اشربوا بكيفكم فمن نام تركناه! ولم ينقض عليهما نومهما، بل تركهما في راحتهما ما إلى أن استيقظا بنفسيهما فسقاهما، فهذا العمل شديد، وليس بسهل، (فانزاحت الصخرة قليلاً) أي: تحركت، وظهر لهم أثر الدعاء، فهم -إذاً- على طريق صحيح، وفي عمل سليم، فقام الثاني وقال:(اللهم! إنه كان لي أجير، يعمل لي وأعطيه أجره يومياً، فأعطيته أجره يوماً قدحاً من شعير فاستقله، ومضى مغضباً، فنميته له، وبعد سنوات جاء وقال: أعطني ذلك الأجر، فقلت: اذهب إلى بطن الوادي، وخذ ما فيه فإنه أجرك! فقال: أتسخر مني؟ الوادي مليء بإبل وبقر وغنم، قال: والله! هو أجرك، فإني نميته لك، فذهب فأخذ كل ما رأى، ولم يترك شيئاً، اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانزاحت الصخرة قليلاً -جزءاً آخر- وقام الثالث فقال: اللهم! إنك تعلم أنه كانت لي ابنة عم وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجل المرأة، فراودتها عن نفسها؛ فامتنعت حتى أخذتها السنون، -أي الشدة- فجاءت تطلب مني عشرين ديناراً، فقلت: ذاك الذي تعلمين، فامتنعت، ثم أجابتني لشدة الحاجة، فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة، غطت وجهها وقالت: يا هذا! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركت لها المال، اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانزاحت الصخرة، وخرجوا يمشون في الأرض) .
هذا خبر رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله! لولا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان العقل يتوقف في تصديقه، ولكنه خبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، فهذه نتيجة التعرف إلى الله في الرخاء، وجدوها عند الشدة، والعجيب أن هذا الحديث يجمع ثلاث حالات: واحدة اجتماعية في بر الوالدين، وواحدة أخلاقية في العفة عن المرأة، وواحدة اقتصادية فيما يتعلق بالأجير، فكأنه جمع أطراف العلاقة بين العبد وبين ربه، وبين العبد وبين الخلق، وهذا الباب واسع.