[تعظيم أهل الحديث لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم]
وهو كذلك يعطينا أيضاً صورة طالب العلم كيف يأتي إلى المسجد النبوي وإلى المعلم بهذه الصورة:(شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر) فطالب العلم وخاصة العلماء تكون لهم هيئتهم ونظافتهم ومظهرهم.
وقد قالوا: كان مالك رحمه الله أشد الناس عناية باللباس، خاصة إذا درّس الحديث النبوي الشريف، وربما يبيع بعض أثاث بيته ليكمل هيئته في لباسه من أجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي قصة مجيء هارون الرشيد إليه، حينما جاء إلى المدينة وعلم بموطأ الإمام مالك، وكان من قبل أبو جعفر المنصور أشار على مالك بهذا الكتاب المبارك.
وجاء هارون ومعه الأمين والمأمون وأراد لهما أن يسمعا الموطأ من مالك، فطلبه بكتابه إلى دار الإمارة، فامتنع من الذهاب إليه، وقال: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فجاء هارون الرشيد بنفسه ليسمع الموطأ من مالك، فلما وصل إلى باب بيته وأخبرته الخادمة أن هارون الرشيد على بابه، أبطأ حتى جاء إلى هارون وأذن له بالدخول، فقال له هارون الرشيد: ما هذا يا مالك! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فأوقفتنا على بابك؟! قال: يا أمير المؤمنين! إن وقوف العلماء على أبواب الأمراء يزري بهم، ووقوف الخلفاء على باب العلماء يعلي شأنهم، ثم إني علمت أنك جئت إلى بيتي، لا تريد دنيا ولا مالاً إنما تريد العلم، فذهبت فاغتسلت، ولبست ثيابي وتهيأت كي ألقي عليك من سنة رسول الله وأنا على أحسن حال.
وهكذا ينبغي لطالب العلم! كان بعض إخواننا الذين درسنا معهم في هذا المسجد النبوي الشريف كتاب بلوغ المرام، ورياض الصالحين، ونيل الأوطار، وهذا الكتاب المبارك الموطأ، كانوا في النهار يعملون في الأسواق على لقمة العيش بعفة وباستغناء عن الناس، فإذا جاء وقت الدرس بين المغرب والعشاء، كأنهم أقمارٌ في هذا المسجد في نظافتهم وهيئتهم ونور وجوههم، وهكذا: فقد كانوا في النهار عمالاً يسعون على أرزاقهم وعند الدرس لا تفرق بين أحسن إنسان في المسجد وبين هؤلاء الطلبة.
وهكذا يرسم لنا جبريل الطريق، ثم ها هو يأتي في بعض الروايات:(أنه وقف بعيداً وقال: يا محمد أأدنو؟ قال: ادن، ثم دنا قليلاً، وقال: أأدنو؟ قال: ادن، إلى أن وصل إلى مكانه وجلس) .
وبعض الكتب تذكر أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم مجلس خاص؛ لأن الأعراب حينما كانوا يأتون إليه لا يفرقون بينه وبين سائر المسلمين ولا يعرفونه، فجعل له مجلساً خاصاً يميزه عند من يأتيه وهو لا يعرفه فيقصده صلى الله عليه وسلم، ولكني لم أجد في من أرّخ للمسجد النبوي هذا المجلس الخاص يذكرون أسطوانة الوفود في الروضة، التي كان يستقبل عندها الوفود، ويذكرون غيرها من الأسطوانات مثل أسطوانة السرير عند الاعتكاف، وأسطوانة التوبة لـ أبي لبابة، وأسطوانة المخلقة التي كان يجلس عندها ويجلس عنده شيوخ بني هاشم أو شيوخ المهاجرين الذين يوجدون بالمدينة إلى غير ذلك من الأماكن.