للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)]

وقوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) هو بمعنى: (احفظ الله تجده تجاهك) ، وكل إنسان معرض لرخاء وشدة، وكما جاء في كتاب الله: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:٦] ، فإذا كنت تتعرف إلى الله في الشدة فقط؛ فأنت أناني، وإذا كنت تتعرف إلى الله في الرخاء؛ فأنت شاكر النعمة، وإذا أنعم عليك تعرفت عليه وشكرته، والشخص الذي يشكر النعمة خير من الأناني الذي لا يعرف المنعم إلا وقت الشدائد.

هذا الحديث يعطينا أحوال الحياة، فأنت لابد أن تتقلب بين شدة ورخاء، ورب العزة سبحانه هو ملجؤك في الشدة، وهو معينك في الرخاء، فإذا كنت تتعرف إلى الله في الرخاء، فتعرفك شكر للنعمة، وهذا يزيدها، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فهل العبادة التي جاءت بعد هذا الإخبار أعظم أم العبادة التي قبل الإخبار، وهو يرجو رحمة الله؟ التي قبلها فيها طلب ومعاوضة، لكن التي بعدها محض شكر، ولذا قال لـ عائشة حينما كلمته في ذلك: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟!) .

إذا كان لإنسان عليك منّة، ثم دقمت له يداً أو شيئاً، فمهما كان الذي تعطيه فأنت في ظل التي له عليك، لكن إذا لم يكن له عليك يد، وقدمت له شيئاً لغير مقابل من قبيل حفظ العهد؛ فهذا أكمل، فإذا كنت تتعرف إلى الله في الرخاء، فهذه معرفة شكران، لا أقول: صحبة أو صداقة، بل أقول: معرفة شكران لنعم الله، وتعظيم الله دليل على محبتك لله؛ لأن محبتك لله هي التي ربطتك بالله، وإن كنت تشعر أنك لست في حاجة إلى أن تسأل الناس شيئاً، لكن العبد لا يستغني عن الله لحظة، كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم عندما طلبت فاطمة منه خادماً؛ لأنها تعبت من العمل على الرحا، واشتكت لـ علي فقال: سمعت أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بجوارٍ وعبيد، فاطلبي منه خادماً، فطلبت منه ذلك، فقال: (ما يمنعك أن تفعلي ما أوصيك به؟ تقولين دبر كل صلاة: يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله) ، والله! لو وكل الله العبد لنفسه طرفة عين لخر ميتاً هامداً، فالقلب إذا توقف لحظة يموت الإنسان؟ والدماغ إذا توقف لحظة أصيب بالشلل والموت، فالله سبحانه يرعى هذا العبد وهو غافل، وإيمانه ينقص وهو غافل، والمولى يدبر قلبه ويحركه، ولولا ذلك لخر ميتاً.

فحينما تكون في الرخاء تفعل الخير لوجه الله شكراً لله على نعمه، ولا تقوى أن تقطع نفسك عن الله، وصارت صلتك بالله كأنها سجية، فإذا جاءتك شدة، فمن كنت متعرفاً إليه سابقاً بالشكر هل يتخلى عنك؟ لا يمكن أن يتخلى عنك؛ لأنك ما تخليت عنه وقت السعة، فلا يتركك أبداً وقت الشدة، والله! لو كان لك صديقك دائماً تغدق عليه بالخير بدون منة له عليك، فإذا رآك في شدة فإنه من باب المروءة يفزع لك، فإذا كان الأمر فوق هذا، فكنت توليه بخيراتك دائماً، فإذا شعر أنه ألمت بك حاجة، فكم يبادر إليك، وهو إنسان، فما بالك بفضل المولى سبحانه؟ فالعبد ينبغي أن يكون عاقلاً، قال بعض علماء السلف: الكيس من كانت له عند الله خبيئة سر، كل واحد منا سيرجع إلى بيته، ويضع رأسه على الوسادة، ويطفئ الأضواء، ويغمض العينين، فليحاسب نفسه، كم له من خبيئة سر عند الله؟ وكم عليه من غدرة مع الله؟ وكم عليه من سيئة؟ وكم له من حسنة لا يعلمها إلا الله؟ فحاسب نفسك ساعة فيما لك وما عليك، وعد السيئة والحسنة حتى تنجو، فالتاجر الحاذق ما يبيت ليلة إلا وقد كتب حسابه الذي له والذي عليه، حتى يعرف مكسبه من خسارته، فالإنسان منا لماذا لا يحاسب نفسه على هذا؟ يا إخوان! هذا الباب واسع، ويصعب عليّ أن أطيل فيه، ولكن أكتفي بهذا القدر.