[وقفة مع قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)]
فإنه يتعلق بهذا الحديث العديد من القضايا الكبرى في علاقة الأمة بأكملها بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وجميع شراح الحديث يوردون في شرحه الآية الكريمة: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] .
وبهذه المناسبة ننبه على ما سبق أن نبهنا عليه مراراً، بأن الاستدلال في كتاب الله، وفهم معنى كتاب الله ودلالاته لا تؤخذ جزئية، ولا موضعية، ولكن تؤخذ وحدة موضوع متكاملة، وهذه الآية الكريمة سيقت في سورة النساء، فنأخذ ما قبلها من أول نصف الحزب قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:٥٨] .
ثم يأتي بعدها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:٥٩] .
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: معرفة سبب النزول تعين على فهم النص، الأصوليون يقولون: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) .
فنأتي إلى هاتين القاعدتين سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:٥٨] ، لما فتح الله مكة على المسلمين -ونحن نعلم أن أعظم وأشرف مكان في الأرض هو الكعبة، ومفتاح الكعبة هو أغلى وأثمن ما يحرص عليه كل إنسان- أراد صلى الله عليه وسلم دخول الكعبة، فطلب المفتاح من آل شيبة، من عثمان بن طلحة، وكان هو سادن الكعبة، ففتح صلى الله عليه وسلم الكعبة، ودخل فصلى وخرج، فقال علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطنيه يا رسول الله! قال له: خذ، فجاء عثمان يطلب المفتاح ويقول: الأمانة التي أعطيتك، فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:٥٨] ، وهنا علي بعد أن أخذ المفتاح، هل يتمسك به أو يكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله من عند الله ويسلم المفتاح طائعاً مختاراً؟ الذي فعل أنه سلم المفتاح.
ثم نأتي إلى عموم اللفظ (يَأْمُرُكُمْ) ، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على جميع الأمة أن تؤدي الأمانات إلى أهلها، وأعظم أمانة عند الفرد هي ما ائتمنه الله عليه من دينه، حتى يقول العلماء: إن الوضوء أمانة، ويقول مالك: إن الصلاة أمانة.
الغسل للجنابة أمانة، من منا يعلم عن الثاني أمتوضئ أم غير متوضئ؟ فهو أمر ائتمنك الله عليه.
وفي قوله تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:١٠] قالوا: الأمانات التي ائتمن الله العباد عليها.
{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:٥٨] ، وفي آية أخرى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:١٥٢] ؛ لأن العدل من تعادل كفتي حمل البعير إذا كان الحمل متعادلاً متوازياً، أما إذا كانت كفة ثقيلة، والأخرى خفيفة، فإنها تطيش الخفيفة وتنزل الثقيلة ويجنح البعير ولا يستطيع المشي.
الخطاب هنا: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، هل هو خطاب لعموم الرعية أم للحكام؟ المخاطب بهذا هم الحكام، فالله فوق الجميع، والحاكم الذي ليست فوقه سلطة إلا لله يأمره الله أن يحكم بالعدل، ولم يقل: إذا حكمتم بين المؤمنين، لكن قال: إذا حكمتم بين الناس.
أي: ولو كانوا كفاراً.