للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كل المسلم على المسلم حرام]

وعوداً على بدء مرة أخرى ينتقل الحديث إلى الخاتمة، فلا تظلم أخاك المسلم، ولا تنجش عليه فتزيد في الثمن ليؤكل ماله بالباطل، ولا تحقره، واحفظ عرضه، ولا تسخر منه.

وفي قوله: (كل المسلم على المسلم حرام) إشارة إلى أن المراد كل المسلم، فما قال: كل المسلمين؛ لأن السور الكلي يحيط بالفرد، وإنما المراد المسلم بمجموعه، ومجموع المسلم هيكله وجسمه وماله وعرضه وسمعته، أي: بهيكله حساً ومعنى، فالمسلم كله بمجموعه حرام على المسلم الآخر.

ونص صلى الله عليه وسلم على أمور أساسية، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعد الإجمال بالتفصيل، وبدأ بدمه ثم ماله ثم عرضه، وأهم ما في الإنسان دمه، أي: نفسه، وماله الذي يكتسبه، والمال صنو النفس، وعرضه الذي إذا مات في سبيل الدفاع عنه مات شهيداً.

فالإنسان قد يخاطر بنفسه في سبيل حماية عرضه، وقد يخاطر بنفسه في سبيل حماية ماله، فالثلاثة متساوية، النفس والمال والعرض.

وإذا كان دم المسلم على المسلم حرام، فلا يجوز له أن يسفك قطرة منه، فهي حرام، وهذا الأمر بالذات يعلنه صلى الله عليه وسلم في أعظم المواقف وأشدها حرمة، وهو يوم الحج الأكبر، فبعد أن حج الناس، وطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، وجاؤوا إلى عرفات، وفي عشية عرفة يتجلى المولى سبحانه يباهي بهم الملائكة، ورموا الجمرات، ونحروا الهدي، وجعلوا الشعر، فإنهم يتطهرون من ذنوبهم، ويخرجون منها كيوم ولدتهم أمهاتهم.

فأصبحوا في طهارة ونقاء، فليلزم كل إنسان تلك الصفة، وليحافظ عليها، ولا يدنسها ولا يكدرها بشيء، ففي يوم الحج الأكبر قال صلى الله عليه وسلم: (أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟، أي بلد هذا) ، فكلما سأل صلى الله عليه وسلم كانوا يسكتون، قال الرواي: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.

فلعله يأتي الوحي ويغير الأسماء، وأخيراً قال: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا) .

فأروني صيغة تحذير مثل هذه! فيحرم الرسول صلى الله عليه وسلم دماء الناس وأموالهم وأعراضهم فيما بينهم حرمة مكررة مضاعفة ثلاث مرات كحرمة اليوم والشهر والمكان، فهل بعد هذا يستبيح مسلم دم مسلم؟ لا والله.

والأصوليون يقولون: إن شرائع الإسلام كلها، والشرائع السماوية ما جاءت إلا لتحمي تلك الأمور الخمسة التي هي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب ومعه العرض.

فتلك الخمس إذا صينت في أي مجتمع كان مترابطاً، وكان مجتمعاً سعيداً، وإذا ما ضاعت تلك الأمور في أي مجتمع فلا قوام له، فمجتمع بلا دين لا يوجد، ولذا يقول علماء الاجتماع: لا يمكن أن تجد أمة بلا دين، سواء أكان صحيحاً أم باطلاً، فمن الممكن أن ترى مدينة بلا ملعب ولا مسبح، أما بدون معبد فلا يمكن أبداً، فلا بد من الدين، فالدين أمر فطري، وقد يخطئ الناس فيه وقد يصيبون.

وكذلك حفظ النفس، فالحيوان يدافع عن نفسه، وهل وقعت خصومة بين اثنين إلا من إحدى الطرق الثلاث، إما اعتداء على الدم، أو على المال، أو على العرض، فإذا حفظت النفس وحفظت الأموال وصينت الأعراض فلا خصومة في المجتمع بعد ذلك.

فكل المسلم على المسلم حرام، ويتبع حفظ الدم حفظ الجوارح أيضاً، حتى جاء أنه كان الصحابة مجتمعين، فقام رجل وبيده حبل يجره، فقام رجل وأمسك بالحبل فأفزعه، فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفزع المسلم أخاه، ونهى المسلم أن يأخذ عصا أخيه جاداً أو هازلاً، فتأخذها تمزح معه وتروعه فيها، فيبحث عنها وأنت لا تريد سرقتها، ولكن تريده أن يبحث عنها قليلاً، فلا يجوز لك أن تخيفه بهذا الأمر، أو أنك تحزنه، أو أنك تفزعه في هذه الأمور.

والمال قل أو كثر لا يجوز لإنسان أن يأخذه من أخيه إلا بطيب نفس، ولو كان أقل ما يمكن أن يسمى مالاً، وكذلك عرضه لا يعتدي عليه، والعرض ليس معناه النسب فحسب، بل شخصه وذاته كذلك، ولذا حرم صلى الله عليه وسلم وحرم القرآن الكريم أن تغتاب أخاك المسلم، وجاء في الحديث أن ابن عمر نظر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) .

والله تعالى يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:١٢] ، ولما سأل الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) ، والبهتان أن ترمي الشخص بما ليس فيه، والاغتياب: أن تذكره بما فيه.

فإذا كان لك عنده حق فما لك وله، ولماذا تذكره بما يكره؟ فنجد هذا الحديث النبوي الشريف في أعلى مراتب الكمال في الإسلام، ولذا يذكره الإمام مسلم -كما ذكر هنا النووي - في باب البر والصلة.

ويضاف إلى هذا الحديث الحديث الآخر: (حق المسلم على المسلم ست) ، فهنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه ولايخذله، ولا يكذبه ولا يحقره) ، فأضف إليها قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) .

ولو أن المجتمع الإسلامي وقف عند هذا الحديث، وأعطى كل إنسان حق أخيه عليه، فهل سيوجد في العالم مجتمع فوق هذا؟ فـ أفلاطون يتكلم عن المدينة الفاضلة، ويتخيل مدينة مثالية خيالية في أهلها وأصحابها، لكن هل هناك مجتمع أفضل من هذا المجتمع المسلم في هذه الآداب؟ لا والله! وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا يخطب على خطبته) ، فإذا كان الخاطب الأول عنده زوجتان أو ثلاث ويريد أن يتزوج الرابعة، والآخر ما تزوج بعد، أو كان الخاطب الأول على النصف في الاستقامة، وهو يرى في نفسه كثرة استقامة فليس له أن يذهب ويخطبها ويبعدها عن ذاك الشخص ما داموا قد ركنوا إليه، والغالب أن أهل المرأة لا يركنون إلا بعد البحث، اللهم إلا إن كنت تعلم من أمر الخاطب ما لا يرتضيه الله في دينه أو دنياه، أما لو كان عنده ثلاث أو اثنتان أو عشرون جارية وزوجتان، فليس لك شغل في هذا، وأما أمر الدين في الأمور الظاهرة فإنهم إن جاءوا يستشيرونك فلك أن تبين بقدر الحاجة في بابها، وما عدا ذلك لا حق لك فيه، وما يدريك لعلها تسعد مع ذاك أكثر من سعادتها معك! فلا ينبغي للإنسان أن يرى في نفسه الخير على غيره، ويتقدم إلى خطبة المرأة نظراً لأنه أحق بذلك، فإذا ركنوا إليه فلا تتقدم بعده.

والله تعالى أعلم.

والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الإخوة المتحابين في الله، العاملين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.