[هيئة قدوم الحاج إلى مكة ودخوله إليها]
كل ما يتقدم عرفة تهيئةً لذلك اليوم العظيم.
فتمشي على تلك الحالة ملتزماً آداب الحج، ملبياً لله سبحانه، مؤمِّناً كل مخلوق من شرِّك، اللهم إلا المعتدي، كما يقال: سلم لمن سالمنا، وحرب لمن عادانا، ولا نقول مثلما يقول النصارى: إذا ضربك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن، لا والله! فإن اعتدوا علينا اعتدينا عليهم؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والعقرب والحدأة والغراب والكلب العقور) ، إذا جاءت الحدأة وخطفت منا الأكل أنتركها؟ أو جاءت الفأرة أو العقرب، أو الحية أنستسلم لها؟ لا؛ لأن هذه مفسدات.
إذاً: المحرم سِلْم لمن سالمه، وحرب لمن عاداه، فإذا سار في طريقه حتى وصل مكة شرفها الله، يدخلها متذكراً دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فإنه دخل متواضعاً خافضاً رأسه حتى يكاد جبينه الشريف أن يمس رحل الراحلة تواضعاً لله أن فتح عليه مكة، وأنت شكراً لله أن منَّ عليك بهذا المجيء، وتأكد أنه ليس لوفرة مالك؛ فكم تركتَ أغنى منك في بلدك! ولا بقوة بدنك؛ فكم تركت من هو أقوى منك.
جئت بدعوة من الله، ولذا تقول: لبيك، وفي اللغة: حينما يناديك إنسان تلبي أي: تجيب الداعي، وأي نداء تلبيه أنت؟ يقول العلماء باتفاق: إن الله سبحانه لما كلف خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام برفع القواعد من البيت قال: يا إبراهيم! نادِ في الناس: إن الله ابتنى لكم بيتاً فحجوه، وهو قوله سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:٢٧] .
{رِجَالاً} يعني: على أرجلهم، وليس المعنى رجالاً دون النساء، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} : ذكر هذا في مقابل الرجال، والآن يأتون بسيارات، أو طائرة أو باخرة أو غواصة، {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} .
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:٢٨] : هل يمكن أن تتحقق المنافع مع الجدال والخصومة واتخاذ المناسك شعارات خاصة؟ لا والله! لا تتم المنافع للناس إلا بالتآلف والتآخي واعتبار ذلك نعمة من الله؛ لأنه أعظم مؤتمر إسلامي ينظر فيه المسلمون مصالحهم.
فإذا وصلت إلى البيت، حمدت الله سبحانه، واستشعرت نعمته عليك، وأول ما تبدأ: الطواف بالبيت، كشخص ملهوف، وشخص له وجدان، وله إحساس ينتظر تلك اللحظة من زمن بعيد، فيأتي كالعاشق الولهان يطوف حول البيت تعبيراً عن اشتياقه لله، وأداءً للنسك الذي أوجبه الله عليه.
لما بنى إبراهيم البيت قال الله له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} : نادِ في الناس: إن الله ابتنى لكم بيتاً فحجوه.
قال: وأين يبلغ ندائي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ.
فصعد إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس ونادى: أيها الناس! -وأين الناس الذين عنده؟ هو بوادٍ غير ذي زرع؛ ولكنه أمر الله- إن الله ابتنى لكم بيتاً فحجوه.
فلبى كل من أراد الله له الحج، حتى الذراري في الأصلاب، من لبى مرة حج مرة، ومن لبى أكثر حج أكثر.
أنت الآن تجلس بمذياع صغير قَدر الكف تضعه في جيبك وتحرك إبرةً صغيرةً، فيدور بك العالم من شرق إلى غرب ويأتيك بالأصوات، إذاعات على حسب موجات الأثير، تعطس في المذياع فيسمعك من كان في آخر الدنيا، إذا كان هذا صنعُ البشر، فكيف بالخالق سبحانه وتعالى؟! فهو قادر أن يُبلغ الأصوات للخلق جميعاً حتى الذراري في أصلاب آبائهم.
وكما جاء في حديث خطبة الوداع في منى، يقول راوي الحديث: (ففتح الله أسماع الحجيج حتى سمعوا خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في خيامهم) ، الرسول عليه الصلاة والسلام يخطب في منى في مسجد الخيف، والله يفتح الأسماع ويبلغ الأصوات، فسمع كل من كان في منى، أكانت هناك مكبرات صوت؟! لا، لكن الله سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء؛ فكل من كان في منى سمع خطبة رسول الله، (بلغوا عني ولو آية) ، (رب مبلغ أوعى من سامع) ، وخطبهم وبين لهم أحكام الإسلام بمجملها في ذلك اليوم في تلك الخطبة.
إذاً: حينما تقول: لبيك، فهو إجابة لذلك النداء: إن الله بنى لكم بيتاً فحجوه، وقلت: لبيك، وأنت في صلب أبيك.