علماء الشريعة يقولون: الحياء خير كله إلا في مسائل، وهي: إن هناك من الأمور ما ينبغي ألا يتركه الإنسان ولا يقول: أستحي أن أفعله، فإذا رأى منكراً من شخص وله مقومات تغيير المنكر، وعلى ما بيّن صلى الله عليه وسلم باللسان لمن يقدر على ذلك، وبالقلب لمن لا يستطيع هذا ولا ذاك، فإذا رأى منكراً ورأى إنساناً ذا هيئة يقول: أستحي أن أكلمه، ليس هذا محل الحياء ولكنه الضعف، وكذلك قالوا في طلب العلم كما جاء في الأثر: إن ديننا هذا -يعني العلم- لا ينفع فيه أمران: الحياء والكبر، ولذا قالوا: اثنان لا يتعلمان أبداً: مستحٍ ومتكبر، يتكبر أن يسأل فلا يحصل على علم أبداً.
ولذا روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:(نِعمَ النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن في أمور دينهن) .
وهكذا كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، له صاحب قال له ابن عباس: هلمّ نجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة كثر بالمدينة، قال: أترى أن الناس يأتي عليهم وقت ويحتاجون إليك يا ابن عباس؟! يقول ابن عباس: فترك ومضيت) .
وجاء عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يجمع بين الأمرين، الحياء بتوقير العلماء، والحياء في ترك السؤال فيما يحتاجه، وذلك في موقفين: الموقف الأول: يقول: (إنه رأى رجلاً سمع عنده حديثاً لرسول الله، وخرج الرجل من المسجد بعد صلاة الظهر، يقول ابن عباس: فتبعته واستحييت أن أوقفه في الطريق، ومضيت خلفه لعله إن وصل بيته يلتفت وراءه فيراني، قال: فولج البيت ولم يلتفت ورد الباب، فجلست عند الباب أنتظر خروجه أو خروج صبية له، فلم يخرج أحد، وأخذ التراب يسفي عليه فتغطى بردائه، إلى أن خرج الرجل لصلاة العصر، فوجده فقال: ابن عباس ابن عم رسول الله على باب بيتي! هلاّ آذنتني فأتيتك، قال: العلم يؤتى إليه ولا يأتي، ما حاجتك يا ابن عم رسول الله؟! قال: حديث سمعته عنك هو كذا وكذا، قال: نعم) .
الموقف الثاني: يروي الذهبي في ترجمة زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: (أنه ركب ذات يوم وجاء ابن عباس رضي الله تعالى عنه فأخذ بركاب زيد، فقال زيد: تنح يا ابن عم رسول الله! عن الركاب، قال: هكذا أُمرنا أن نعمل مع علمائنا، فقال زيد: أخرج يدك يا ابن عباس! فأخرج يده فأخذها زيد وقبلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل مع آل بيت رسول الله) .
يهمنا في هذا توقير ابن عباس للعلماء، وهكذا طالب العلم وجب ألا يستحي في طلب العلم، ولكن مع توقير العلماء وليس مع تجهيلهم، أو قصد إظهار عجزهم، ولا الإتيان بالمعضلات والألغاز، لا، إنما يريد العلم والاستفادة ويحصل على ما حصل عليه هذا الشيخ أو ذاك.
وهكذا أيها الإخوة! يتبين لنا من هذا الحديث على إيجازه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم فيما أعطي من جوامع الكلم، وما أعطي من مكارم الأخلاق في هذا الحديث الموجز:(إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) وقالوا في حقه صلى الله عليه وسلم: لقد كان في الحياء الغريزي أشد حياءً من البكر في خدرها، وفي الحياء المكتسب -أي: مع الناس ومعاملات الناس- ما سئل شيئاً إلا وأعطاه حياء من أن يمنع، أما إذا رأى انتهاك حرمات الله غضب لذلك، ولا يقبل لأحد كلاماً في هذا، وهذا هو المقياس في هذا الحديث وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.