هذه الأشياء محبَّبة ومزيَّنة عند الناس وكأنها كل شيء، لكن قال الله:{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}[آل عمران:١٥] ، من شهوة النساء والبنين والقناطير المقنطرة والخيل المسومة والأنعام والحرث، {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} اتقوا محارم الله ومعصيته ونواهيه سبحانه وتعالى، وامتثلوا الأوامر واجتنبوا النواهي.
إذاً: هؤلاء عندهم الحرث، والحرث جنات وحدائق وبساتين؛ ولكن ليس مثل هذه الجنات؛ لأن جنات الآخرة تجري من تحتها الأنهار، وجنات الدنيا كما قال الله:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً}[الكهف:٣٢-٣٣] ، لكن جنات الآخرة:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ، وليس هو نهراً واحداً، بل المتنوعة الأصناف كما قال الله تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}[محمد:١٥] .
وقوله تعالى:{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[آل عمران:١٤] ؛ لا تظن أنه متاع الحياة الدنيا من أول آدم إلى يوم القيامة! لا، بل يقصد به مدة حياة الإنسان، والله سبحانه جعل لنوح عليه السلام عمراً طويلاً:{أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً}[العنكبوت:١٤] ؛ وكما جاء في الأثر:(إذا كان يوم القيامة يؤتى برجل من أهل النار فيُغمس غمسة في النار، ثم يقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله! يا رب! ثم يؤتى برجل من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة ثم يقال له: هل مر بك بؤس في الدنيا قط؟ فيقول: لا والله! ما رأيت شيئاً) ، إذاً: نعيم الدنيا كله للكافر لا يساوي غمسة في النار! وفي الحديث: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يُدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع!) ، كم يأخذ هذا؟ هذا مثل الدنيا في الآخرة! وفي الحديث (لموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، فالنعيم الحقيقي الذي لا يعادله شيء في الوجود، هو الدوام والخلود في الجنة، وأيُّ شخص في الدنيا سواء أكان عاقلاًَ أو نصف عاقل إذا قيل له: نبني لك مدينة خيالية؛ من أثاث ونعيم ومتاع وجوارٍ مدة حياتك، وبعد ذلك إلى النار -عياذاً بالله-، أو تعيش نصف حياتك في هذا النعيم والنصف الثاني في الصحراء، أو نبني لك عشةً وعندك من الماء ما تيسر، ومن الخبز ما يكفيك بالكفاف، وعندك الهواء الصافي، والظل، وتستمر فيها على استمرار، فأيهما تختار؟ سيختار الحياة العادية بصفة دائمة، ولن يختار المدينة الخيالية التي يعيش فيها نصف عمره، ثم النصف الآخر يُرمى به في الصحراء؟ فما الفائدة من النعيم ثم الجحيم؟ ولذا يقولون: لو أن إنساناً خير بين بيت من خشب دائم، وبيت من ذهب مؤقتٍ؛ لكان العاقل يختار البيت الدائم، فكيف ببيت من ذهب دائم تستبدله ببيت من خشب؟! حينما تتذكر الجنة -نسأل الله من فضله- تشعر بأن نعيمها هو النعيم المقيم {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}[آل عمران:١٥] ، فهو عطاء دائم، وأنت مخلد فيه، وأعتقد أنه لو نقص نصف هذا النعيم مع الخلود فيه فلن يضرك شيء.
إذاً: بقاء الجنة وخلود الإنسان فيها أكبر نعيم، وهو أكبر من نعيم الجنة نفسها، وهذا النعيم الدائم هو السعادة بكاملها، ومع هذا أيضاً:{وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}[آل عمران:١٥] .
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ}[آل عمران:١٤] ، عندما تنظر للمرأة في الدنيا ترى أن ثلاثة أرباع عمرها في حالة الله أعلم بها، وربع العمر ضائع في الدورة الشهرية؛ لكن نساء الجنة مطهرات من هذا كله، فالمرأة في الدنيا إذا ولدت فشهران يذهبان في النفاس، وشهر قبل النفاس في الوحم، وجِبِلَّة الإنسان يأكل ويفرِّغ؛ لكن أزواج الجنة مطهرات من ذلك كله، بل كما في الآية الكريمة:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:٥٦] ، وأيضاً إذا عاد إليها وجدها بكراً.
إذاً: هناك فرق كبير، بل ليس هناك موضع مقارنة، قال تعالى:{أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}[آل عمران:١٥] ، قال الله:{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}[ق:٣٥] ، قال الله:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ}[آل عمران:١٥] ، ونضرب أمثلة لذلك -ولله المثل الأعلى-: إذا جئت ضيفاً على صديق، وشعرت بأن زيارتك لهذا الصديق تفرحه، ألا يكون ذلك إكمالاً لسرورك بوجودك في ضيافته؟! بخلاف إذا جئت ضيفاً عند شخص وشعرت أنه يستثقل وجودك.
فإذا شعر الإنسان أنه مخلد في جنة نعيمها كما بين سبحانه:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ، وهو مخلد فيها، {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} ، ثم بعد هذا كله قال الله:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} .
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران:١٥] بصير بأعمالهم، وسيجازيهم على قدر ما عملوا، وبحسب موقفهم فيما زُيِّن لهم من تلك المسميات.