أليست الحسنات في ذاتها أيضاً تتفاضل؟ قال الله سبحانه:{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ}[فصلت:٣٤] يقول أبو حيان: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) فيها احتمالان: الأول: الحسنة من حيث هي من باب الحسن، والسيئة من حيث هي من باب الإساءة لا يستويان، فهذه حسنة معروفة، وهذه سيئة قبيحة، فهما متباعدان ونقيضان.
الثاني: ولا تستوي الحسنة في ذاتها، بل يوجد حسنة رقم واحد، وحسنة رقم اثنين، وحسنة رقم عشرة، وكذلك السيئة تتفاوت، وقد أشرنا إلى تفاوت الحسنات بحسب عمل العبد، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:(سبق درهم مائة ألف درهم!) ، والدرهم واحد، لكنه يقول لهم:(سبق درهم مائة ألف درهم!!) فميزان العقل والمنطق والحساب والرياضيات يتساءل: كيف هذا والجنس واحد؟! فالدرهم هو الدرهم، وهذه مئات الآلاف من الدراهم، فكيف هذا العدد كله يتأخر ويسبقه درهم واحد؟! فبين صلى الله عليه وسلم ذلك فقال:(رجل معه درهمان، فتصدق بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق بها) .
فانظروا هذه المقارنة، فشخص عنده درهمان فقط، فتصدق بواحد، فنسبة الصدقة من رأس المال (٥٠%) ، والباقي معه بعد الصدقة (٥٠%) ؛ لأن الباقي واحد فقط، وهذا الذي عنده مال كثير، مثلاً مليون، وجاءه مشروع من المشاريع، فمرة يبيع بيته أو يبيع أرضه فربح عشرات الملايين، وقال: هذه مائة ألف، أو مائتا ألف ريال صدقة، فلو تصدق صاحب عشرة ملايين بمائتي ألف، فالمائتا الألف من العشرة الملايين، نسبتها واحد من مائتين، فأين واحد من مائتين من خمسين في المائة؟! فهي نسبة مئوية بعيدة جداً.
ولو أن صاحب العشرة الملايين تصدق بمليون، فهي عشرة بالمائة وسيبقى له بعد ذلك تسعة ملايين، ولا يشعر بشيء خسره.
إذاً: هناك فرق كبير بين القلب الذي يسخو بنصف رأس ماله ولم يبق بيده إلا درهم واحد، والشخص الذي تصدق بشيء لم يشعر به، ويبقى عنده ما يغطي ما تصدق به عشرات المرات، فالدرهم الواحد إذا خرج من قلب نقي، وصاحبه يكثر من ذكر الله، فهو أفضل من صاحب المئات التي خرجت من قلب لا يحس بأثرها كإحساس قلب صاحب الدرهمين، ومن هنا تتفاضل الحسنات فيما بينها.
وأنت لو تصدقت لإنسان محتاج، وعنده (٧٠%) من قدر حاجته، فأعطيته (٣٠%) لسد حاجته، وأتيت لإنسان محتاج لـ (١٠٠%) ، وأعطيته (٢٠%) من حاجته، فهل صدقة (٢٠%) التي أعطيتها لهذا تعادل (٣٠%) التي كملت بها لصاحب السبعين؟ وأيهما أشد سداداً لصاحبها؟ فصاحب (٧٠%) لا بأس بحاله، حتى لو كان صاحب (٥٠%) ، لكن هذا الذي ليس عنده شيء، فهو مسكين لاصق في الأرض كما قال الله:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}[البلد:١٦] ، وليس لديه شيء يحركه، فأنت حركته وأنعشته بصدقتك، فهي أفضل.
إذاً: الحسنة في ذاتها تتفاوت بحسب حاجة المحتاج، كما أنها تتفاوت بتفاوت الزمان والمكان، والله أعلم.