للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صوم النفل]

نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر، وقالت أم المؤمنين عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان) .

وجاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة، ثم رجع إلى قومه، وبعد سنة جاء ووقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وألقى عليه السلام فرد، ولم يعرفه، فقال: يا رسول الله! أما عرفتني؟! قال: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي وقفت عليك في العام الماضي، قال: ما الذي غيرك؟ قال: منذ فارقتك لم أفطر يوماً، قال: (لا صام من صام الدهر، صم ثلاثة أيام من كل شهر، فذاك صوم الدهر كله، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (صم الإثنين والخميس) ، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (صم يوماً وافطر يوماً) ، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) .

وبعض الصحابة في المدينة، حينما شدد على نفسه في الصوم مع قوله الرسول صلى الله عليه وسلم له: (أحب الصيام إلى الله صيام داود) ، وقوله: (صم يوماً وأفطر يوماً) ، فلما كبر وشق عليه ما اعتاده من الصوم قال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقصد أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فحسب.

إذاً: المولى سبحانه وتعالى جعل رسول الله عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين، ومما أنزله قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨] ، ومن رحمته ورأفته صلى الله عليه وسلم بالأمة، بل من صميم الرسالة؛ ألا يكلف أحداً ما لا يطيق من العبادات.

والنفر الثلاثة الذين تذاكروا عباداتهم، وقالوا: نذهب لبيت أمهات المؤمنين ونسأل عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فسألوا أم المؤمنين عائشة، فقالت: ينام ويقوم، ويصوم ويفطر، قالوا: هذا عبد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أرقد، وقال الثاني: وأنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء.

وأم المؤمنين تسمع كلامهم من وراء الحجاب، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكرت له مقالة النفر الثلاثة؛ سبحان الله! عباد الأصنام صاروا يتسابقون في الطاعة! ولكن هل سرّه ذلك ورضي به، وقال: الحمد لله الذي جعل أصحابي هكذا؟ لا والله، جاء إلى المسجد وجمع الناس وخطب وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما إني لأتقاكم لله وأعلمكم بالله، وإني لأنام وأقوم وأفطر وأصوم وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .

وهل هم راغبون عن سنته عليه الصلاة والسلام والله يقول: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٦] ، وهذا باب من أبواب الخير؟!

الجواب

لا.

ولكن هذا باب فتنة عظيم، بل إن الشيطان ما جاء للبشر وأوقعهم في عبادة الأصنام والحجارة إلا من هذا الباب، باب الغلو في العبادات؛ لأن الإنسان له طاقة محدودة لا يطيق ما فوقها، كفرس حملته فوق طاقته فإنه تخور قواه ويسقط تحتك.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) ، وكذلك الجسم هو الفرس للإنسان، يواصل عليه السير إلى نهاية المرحلة التي كتبها الله له، مع تخلل فترات راحة بين الفينة والأخرى، كما في الحديث: (ساعة وساعة) حتى نصل إلى المراد دون أن تخور القوى وتضعف.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) ، تريد أن تسابق الإسلام أقوى منك إذاً: خاف صلى الله عليه وسلم على الناس الغلو، لأن الغالي يغلو ثم يعجز فإذا عجز هدم ما فات.