[المباح وموقعه من التشريع]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان) .
ما حكم هذه الأشياء التي سكت عنها؟ وهل هناك أشياء ليست داخلة في الفرائض ولا الحدود ولا المحرمات؟ نعم؛ لأن الأشياء إما فرائض مأمور بها، وإما حدود محدودة ومنهي عنها، والباقي مباحات، والإباحة حكم، وإذا سكت عنها فلماذا تدخلوا فيها؟ قالوا: تركها لحياة الناس، فلا هي من ضمن المحرمات التي لا ينبغي تناولها، ولا هي من ضمن الفروض التي يتعين الالتزام بها، وهذه شئون الحياة التي بين الناس، ما لم يكن فيها نص من الله، فقد تكون الأمور دنيوية فيما تأكل وتلبس، وتعاملك مع الناس مما ليس فيه ضرر ولا ضرار وأكل لأموال الناس بالباطل، فإذا سلم من المنهيات ولم يأتِ تحت نطاق اللوازم، فهو من المباح المسكوت عنه.
فإذا جدَّ جديد ولم يكن له نص في كتاب الله بماذا نلحقه؟ هل بالفرائض أم بالحدود أم بالمنهي عنه أم بالمسكوت عنه؟ قالوا: بالمسكوت عنه، والأصل في المسكوت عنه الإباحة، ويتفق على ذلك الأصوليون ما عدا المعتزلة.
فالأصل في الأشياء قبل ورود الشرع فيها أنها مباحة.
فإذا سكت الشرع، وجاءت أشياء مستجدة، فنقول: الأصل فيها إن كانت ضمن ما حرم الله، أو ضمن العلة التي من أجلها حرم الله، كما حرم الخمر لعله الإسكار، قال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر) ، فربط الحكم بالوصف، أي: بالعلة المسكرة، فلو جاءنا عسل من نوع من النحل مسكر لقلنا: هو حرام؛ فقد حرَّم ما يضر بالجسم، ولو وجدنا حيتاناً في البحر سامة قلنا: هي حرام، لأنه داخل تحت عموم تشريع نهي وتحريم.
لكن لو وجدنا أصنافاً ليست فيها مضرة، لا تضر بالعقائد، ولا تتعلق بالعقول فتفسدها، ولا بالأبدان، ولا بالأنسال فهي حلال، ولا يجوز للإنسان أن يتناول طعاماً يضر بالنسل، أي: يضيع منه الرجولة، ويعدمها، ويفقدها، ولا يفسد التخصيب الذي جعله الله فيه، وكذلك المرأة لا يحق لها أن تتناول طعاماً أو عقاراً جديداً يفسد عليها جهازها، ويمنعها من الحمل؛ لأن هذا مضر بالجسم، ويتعارض مع حقيقة مقصوده شرعاً: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم) ، إلى غير ذلك، وهذا على سبيل المثال.
فقوله: (سكت عن أشياء) ، من هنا كان التحذير من التعمق في السؤال في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة:١٠١] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعظم الناس ذنباً رجل يسأل عن شيء لم يكن محرماً فيأتي تحريمه بسبب سؤاله) ، ولذا كانوا يكرهون السؤال، بل ويخافون من الأسئلة، ويفرحون حينما يأتي الأعرابي الآفاقي ليسأل ويسمعون.
وهكذا ينبغي على الإنسان عدم التعنُّت والتنطُّع في الأسئلة، ويروى -والله أعلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال عودته من مكة مر على حوض ماء، فقام رجل وقال: (أخبرنا يا صاحب الحوض! هل ترد السباع والكلاب على حوضك أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا، إنه فيه تنطُّع، نرد على السباع، وترد السباع علينا، لها ما أخذت في أجوافها شراباً، ولنا ما أبقت شراباً وطهوراً) .
المهم هنا: (يا صاحب الحوض! لا تخبرنا) ؛ لأن هذا الرجل فيه تنطُّع.
وكذلك روي في أثر: (تأتينا الأجبان من الشام، وعندهم الميتة وعندهم المجوس، فهل نأكلها؟ قال: سموا الله وكلوها) .
سئل علي: (إن أهل اليمن يصبغون الثوب بالبول -لما فيه من الحموضة، فكانوا يضيفونه في الألوان ليثبتها- فقال: إن علمت أن فيه بولاً فلا تصلِّ فيه -أي: في شخصك أنت-، وإذا كنت لم تتأكد ولم تتيقن فأنت مع الناس) .
ومن هنا نقول للذين يتساءلون عن الذبائح أو اللحوم المستوردة: إن علم في حد ذاته طريقة ذبحها أو تحضيرها، وأنها محرمة في نظر الشرع فيكف عنها، أو أخبره من يثق به فلا مانع، أما أن يحكم بتحريمها على الناس فلا.
وعلى كلٍّ فإنهم كانوا يكرهون التنطُّع في الأسئلة مخافة أن يأتي الشرع بتحريم المسئول عنه.
جاء عن ابن عمر أنه قال: ما وجدتَه في سوق المسلمين فخذه، يعني: على سبيل العموم، وعلى هذا لا ينبغي للإنسان أن يتعمق في الأسئلة حتى يحرم على العامة ما ليس محرماً عليهم، أو يشدد عليهم فيما ليس فيه تشديد.
(وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) وفي بعض الروايات: (وما كان ربك نسياً) .
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.