[الأنصار وطاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم]
جاء في الموطأ عن جابر أنه جاء إلى أهل قباء وقال لهم: (لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير، ولكن طاعة رسول الله أولى لنا، نهى أن تؤجر أو تكرى الأراضي على الماذيانات ورءوس الجداول) .
كان الرجل يعطي أرضه لمن يزرعها على أن لصاحب الأرض ما يكون على القناطر وعلى رءوس الحياض؛ لأنه يكون نامياً وقوياً، والتي في أوساط الحوض التي تكون ضعيفة تكون للزارع، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمر أن يكون الأجر نسبة معينة: العشر الربع الثلث الخمس فلا مانع لأنه يعم الصالح والطالح.
فقوله: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير أي: تكسبون منه، لكن طاعة رسول الله خير لكم، ونفذوا طاعة رسول الله، وكانوا يحكِّمون رسول الله في أخص ما يكون لديهم.
لما قدم صلى الله عليه وسلم مهاجراً ونزل بقباء، وكلنا يعلم أن المدينة كانت موطن الأوس والخزرج، وكانوا في قتال مرير قبل الإسلام بخمس سنوات، وكانت القبيلتان كفرسي رهان كما يقولون، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البيعة الثانية التي حصلت عند العقبة من الأوس والخزرج معاً، فأول ما نزل في قباء، والمشهور أنه وصل يوم الإثنين، فسأل عن أسعد بن زرارة، وكان سيد قومه، فقالوا: يا رسول الله! الأوس لا يذهبون إلى ديار الخزرج، والخزرج لا يأتون إلى ديار الأوس، لأن بينهم الحروب والقتال، فلما كان ليلة الأربعاء، أي بعد مجيئه صلى الله عليه وسلم بليلة وجاءت الثانية، جاء أسعد متلثماً بالليل بين المغرب والعشاء، يعني: جاء خفية عن هؤلاء الناس خائفاً على نفسه، فسأله صلى الله عليه وسلم: كيف جئت ديار القوم على ما بينك وبينهم؟، قال: يا رسول الله! ما كنت لأسمع بمجيئك في مكان إلا أتيتك.
فالتفت إلى بني عمرو بن عوف وهم الذين كان نازلاً عندهم وقال: (أجيروا أسعد) ، ونحن نعلم بأن الشخص إذا قال: فلان في جواري؛ فلا يمكن لإنسان أن يمسه بشيء إلا إذا خفرت الذمام وقامت الحرب.
فماذا قالوا؟ قالوا: أجره أنت يا رسول الله فإن جوارنا من جوارك.
وهذا يعني أنه أصبح محكماً فيهم، قال: (يجره رجل منكم) .
ونظام الجوار أن الضيف لا يجير، إنما يجير الأصيل في القبيلة، حتى الشخص الذي بالجوار أو بالانتماء لا يجير، والتابع لا يجير على المتبوع الأصيل فقام فلان وقال: هو في جواري، فبات عندهم تلك الليلة، ومن الغد ذهب إليه مجيره هذا إلى بيته متأبطاً يده ظهراً ونادى وقال: فلان في جواري، فقال بنو عمرو بن عوف كلهم: كلنا جوار لـ أسعد.
يهمنا قولهم: (أجره أنت يا رسول الله) .
كذلك في قضية سعد في غزوة الأحزاب عندما جاء المشركون ومعهم غطفان وهوازن فقال صلى الله عليه وسلم: نعرض عليهم الصلح، فشاور سعد هذا وسعد بن عبادة في أن يصالح الأحزاب على جزء من الثمرة، فقالوا: يا رسول الله! أشيء تحب أن نفعله لك فعلناه، قال: (قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة) .
قالوا: لا والله يا رسول الله! كنا وإياهم على الشرك فما طعموها إلا قرى أو شراء، والآن أكرمنا الله بالإيمان والله ما يطعمون منها شيئاً، وليس بيننا وبينهم إلا السيف.
الشاهد قولهم: (أشيء تحبه يا رسول الله نفعله لك؟) ومن هنا أيضاً كانوا رضي الله تعالى عنهم في المواقف وفي الشدة يفدُّونه بأنفسهم، فهذا أبو طلحة يترِّس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحد حتى يوجد في جسمه حوالي سبعين ما بين طعنة برمح ورمية بسهم، كان كلما مر عليه إنسان يقول: هات ما عندك من سهام، ثم ينظر صلى الله عليه وسلم فيقول له: يا رسول الله! فداك أبي وأمي لا تنظر حتى لا يصيبك سهم من سهامهم.
ويصاب بسبعين طعنة ورمية، لماذا؟ يفديه بنفسه؛ فمن باب أولى أن يكون هواه وميوله تابعاً له صلى الله عليه وسلم.