[إحصاء الأعمال واستيفاؤها يوم القيامة]
أخيراً قال: بينت لكم ودعوتكم وعرضت عليكم ولم يبق إلا أن تتدبروا: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) الإحصاء والإحصائية مأخوذة من الحصى، الحصى تجمع من أجل أن تعد، فالإحصاء العد عن طريق الحصى، وهو العد المنضبط بحيث لا تزيد حصاة ولا تنقص حصاة.
فقال هنا: (أحصيها لكم) ، فعل (أحصى) يتعدى باللام ويتعدى بعلى، يقول: أحصيت لك ما لك عندي، أحصيت عليك ما لي عندك، وهنا الحديث يقول:: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) وهذا من فضل الله وكرمه.
لفتة كريمة في الحديث تنبه شعور المسلم إلى سعة فضل الله الكبير المتقدم: لو اجتمع أولكم آخركم، إنسكم جنكم فأعطيتكم كل شيء ما تغير عندي شيء، إذاً: من كرمه أن يحصي لنا الخير ولا يحصي لنا الشر، ولو كان يعاملنا بالشر كما يعاملنا بالخير لقال: (أحصيها لكم وعليكم) ؛ لكنه لم يقل: (عليكم) ولم يقل: (لكم وعليكم) مع أن أعمالنا قسمان: عمل خير وعمل شر، وهي تحسب بالذرة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧-٨] لكن الكلام هنا في معرض المنة، ففي معرض العطاء والرحمة وإفاضة الخير قدم جانب الخير، وكأنه غطى وألغى جانب الشر.
الحديث له ذوق وإحساس، وليس مجرد قوالب وألفاظ، لكن نأخذ من غضون الكلمات والتعبير -ويكفي أنه حديث قدسي-: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله) ، فمقابل الخير الشر، ولكنه لم يقل: (ومن وجد شراً) ، وكأنه استمرار في إخفاء جانب الشر.
نرجع مرة أخرى: (إنما هي) ، هي: ضمير فصل مؤنث، فهل هو مفسر لمجمل قبله، أو هو كما يقولون: ضمير القصة وضمير الشأن، فقوله: (إنما هي) أي: القصة والحالة، أو أن هناك مسبوقاً ظاهراً يرجع إليه هذا الضمير؟ الراجح أنه ضمير راجع إلى مذكور.
لما قال سبحانه: (إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني) يبقى هنا خطأ استغفار، وكل من الخطأ والاستغفار من عمل الإنسان، إذاً: (إنما هي أعمالكم) إن أخطأتم وإن استغفرتم، فإن استغفرتم فلكم المغفرة، وإذا كان الاستغفار مطلوباً كالتوبة من باب أولى.
إذاً: (إنما هي) يرجع إلى الأعمال المعروفة المطوية في قوله: (تخطئون في الليل والنهار، فاستغفروني أغفر لكم) .
إذاً: (إنما هي) أي: أعمالكم، وقد صرح بها في قوله: أحصيها لكم.
(أحصيها لكم) : أحصيها: أضبطها، هناك في سورة الكهف {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:٤٩] أي: عدداً وضبطاً ونوعاً، وقال: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩] هي أعمالكم فربك لا يظلم، وكذلك ما تقدم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧-٨] ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران:٣٠] ، فلا يغيب عنه شيء.
إذاً: أعمالكم، لا نريد أن نقف مع المعتزلة في إسناد العمل إلى العبد، وادعائهم أن العبد يخلق عمله، ومعارضة القضاء والقدر، بل نقول: إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وخلق له القدرة، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:١٠] ، وجعل له اختياراً فيما يذهب إليه، وكل ما كان في الكون فلا يخرج عن إرادة الله وعلمه، وهذا موقف زلت فيه أقدام لا حاجة لنا به؛ لكن تنبيهاً لطلبة العلم عند المرور على هذه النقطة في شرح الحديث، فإن الله أضافها للعبد على سبيل الكسب.