للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علاج الوساوس في الصلاة]

حظ الإنسان من صلاته ما عقل، وكثير من الناس يشتكي مما يعتريه من الوسوسة في الصلاة وشرود الذهن، فما علاجه؟ نحن وأنتم سواء، هذه أمور تغلب على الإنسان؛ ولكن كما ذكر العلماء: أكبر ما يعينك على نفسك في صلاتك: أن تتمعن وتستحضر معاني ما تقرأ، وتُسمع نفسك، لا أن تمرر القراءة على ذهنك كالتذكار أو كأحلام اليقظة، وتجهر بالقراءة بقدر ما تسمع نفسك فقط، لكي تشغل ذهنك بما تسمع.

قالوا: اتخاذ السترة في الصلاة من أسبابه، فتحجز النظر من أن يطيش أمامك، فإذا كنت قائماً فنظرك في حدود السترة، إذا ركعت كان نظرك في منتصف المسافة ما بين السترة وأطراف أصابع القدمين، فإذا سجدت كان نظرك في أرنبة أنفك من الجانبين، فإذا جلست للتشهد كان نظرك في حدود السترة، وهكذا حاسة النظر تكون محصورة.

أما من حيث حركات الصلاة والهيئات فإنك إذا بدأت بـ (الله أكبر) ورفعت يديك كأنك تركت كل شاغل دنيوي وراء ظهرك، واستدرت بقلبك ووجهك إلى القبلة، ثم قرأت واستمعت، فإذا انتهيت من ركن القراءة وتريد أن تنتقل إلى ركن الركوع ينبِّه الفقهاء بأن التكبيرة التي تأتي عند الانتقال لا تأتِ بها قطعاً إنما ائت بها مداً لتشغل فراغ انتقالك، فأنت قائم لا تقل: الله أكبر وتركع، لا.

بل قل: الله أكبر تبدأ في لفظ الجلالة وتنتهي بالتكبير عند استوائك راكعاً، فتكون في حركة الانحاء إلى الركوع مشتغلاً بلفظة (الله أكبر) ، فإذا استقر الظهر راكعاً اشتغلت بالتسبيح ثلاثاً، فإذا أردت الرفع من الركوع قلتَ: سمع الله لمن حمده، وتستغرق حركة الاعتدال في هذا الذكر، فلا يبقى حينها وقت للوسوسة، وهكذا إذا هويت إلى السجود شغلت حركة الهُوِيِّ بقولك: الله أكبر.

أهم الفروض التي افترضها الله على المسلم خمس صلوات في اليوم والليلة، قال صلى الله عليه وسلم: (فلا تضيعوها) ، بأي شيء؟ · إما بتأخيرها عن وقتها.

· وإما بالتشاغل عن أدائها وعدم إعطائها حقها.

ولكي يساعد الإنسان نفسه بنفسه انظروا إلى سماحة الشرع وإلى التنبيهات اللطيفة: فعندما تكون في مزرعتك، في مصنعك أو مكتبك أو أي عمل كان، فبغتةً تسمع المنادي: الله أكبر، ومهما كنت في أي عمل ستُصغي إلى قوله: (الله أكبر) ، وقد قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن -فلا تتركوه وتهملوه وتصكوا آذاناكم- فقولوا مثل ما يقول) ، فإذا كان هو ينادي الناس من أجل حضور الصلاة، فلماذا نحن نردد خلفه؟! من أجل أن نتفاعل، فهو في الأعلى فوق المنارة وبأعلى صوته، والآن وضعوا مايكروفونات، حتى يبلغ أبعد ما يكون.

وحينما تقول مثل ما يقول المؤذن تكون في شبه فترة انتقال، انتقال من عملك وأنت مفرغ جهدك كله، وشعورك وإحساسك كله، مستغرق فيما كنت فيه، فإذا بدأت تقول وأنت في عملك: (الله أكبر، الله أكبر) ، انشغل الذهن بتكبير الله، وتجاوب القلب مع المنادي، فلما يصل إلى (حي على الصلاة) تقول: نعم، الآن يجب أن أترك العمل، و (حي على الفلاح) تقول: إي والله! الصلاة هي الفلاح، وليس في العمل، و (الله أكبر، الله أكبر) تقول: نعم، الله أكبر من كل عمل، و (لا إله إلا الله) تقول: هي التي من أجلها خلقنا، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] .

فيدُك تترك ما فيها، إن كنت كاتباً تركت القلم، وإن كنت مزارعاً تركت آلة الزراعة، وإن كنت صانعاً تركت آلة الصناعة، وأجبت المنادي، فذهبت تتوضأ، واستعملت الماء، لأي شيء؟ هل أنت حرَّان تريد أن تتبرد؟ هل أنت متسخ تريد أن تتنظّف؟! لا، إنما تجيب (حي على الصلاة) (حي على الفلاح) وأنت على أحسن حالة، فهي نظافة في الظاهر، وتنبيه للنظافة في الداخل، وأنت في تلك اللحظات سمعت النداء واستجبت إليه وجمعت شعورك وتوضأت وخطوت خطاك إلى المسجد.

جاء في الحديث: (إذا توضأ الإنسان فغسل يديه، تناثرت ذنوب كفيه مع آخر قطر الماء، وإذا تمضمض تناثرت ذنوب فيه، وإذا غسل وجهه تناثرت ذنوبه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل قدميه تناثرت ذنوب القدمين، وكان له بممشاه إلى الصلاة بكل خطوة حسنة، ويُمحى عنه بكل خطوة سيئة أو خطيئة، ويرفع له بها درجة، وكانت صلاته له نافلةً) يعني: صلاتك زيادة خير لك عن هذه الحسنات.

فاستحضر من أول لحظة أن قوله: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) إنما هو عملية تحضير للذهن وللقلب، وجمع للشعور، فإذا جئت ووقفت في الصف وقلت: (الله أكبر) ، فحينها فعلاً دخلت على ربك، يقول الحسن رضي الله تعالى عنه: (إذا أردت أن تدخل على الله بلا استئذان وتكلمه بلا ترجمان؛ فأسبغ الوضوء، ثم ائت المسجد واستقبل القبلة وكبر للصلاة) .

مَن استأذنت وأنت داخل من الباب؟ ما استأذنتَ أحداً، فالباب مفتوح، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:٣٦] ، ثم تدعو بأي لغة كانت، ونحن نرى هذا خاصةً في الحرمين، جميع الألسنة واللغات تقف في صف واحد، وكل يسأل ربه بلغته دون أن يحتاج إلى ترجمان بينه وبين الله، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:١٨٦] .

من ناحية أخرى: انظروا إلى النوافل، فقبل كل فريضة سنة، ربما وفقك الله واستيقظت من النوم مبكراً قليلاً، وسمعت الأذان وأجبت وتوضأت وجئت وفيك نوع من الكسل، فصليت سنة الصبح، ثم أقيمت الصلاة وصليت الفجر.

فحينما أتيت على تلك التهيئة أو التعبئة التي عبأتك إياها كلمات الأذان، ثم جئت وصليت ركعتين كمقدمة أو تهيئة؛ فكأنك قمت بين يدي الله بركعتين زيادة في التهيئة، وليسمح لي الجماعة الرياضيون الذين يقولون: قبل أن يدخل الرياضي الملعب يسخن؛ لأن أعضاءه وعضلاته جامدة، فيأتي ببعض الحركات الآلية العضلية حتى لا يصاب بشد عضلي، ثم يدخل إلى الميدان أو الملعب وهو متهيئ.

فنقول: المسلم يؤدي النافلة قبل الفريضة تهيئةً لقيامه بين يدي الله وهو في أكمل ما يكون استحضاراً، وهذه زيادة تحضير، وسمِّها ما شئت؛ لأنها تعطيك زيادة تنبُّه ويقظة ورغبة فيما عند الله.

فإذا دخلت في الفريضة عفوياً ربما تحتاج إلى شيء من التحضير؛ لكن إذا صليت السنة كان التهيؤ أكمل، وكل فريضة -كما أشرنا- قبلها نافلة، فهذا الفجر له ركعتان قبلية، وتلك الظهر لها ركعتان أو أربع قبلية، وتلك العصر قبلها أربع، والمغرب كانوا يصلون قبلها ركعتين، يقول الراوي: (حتى إن الغريب إذا دخل المسجد رأى الناس قد بادروا إلى السواري فيظن أن الناس قد صلوا المغرب) ، وجاء في الحديث: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، وقال في الثالثة: لمن شاء) ؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة لازمة، وقال: (بين كل أذانين صلاة) ، والمغرب كغيره له أذانان، وهما: الأذان والإقامة.

وهكذا قبل صلاة العشاء نافلة، وبعدها نافلة.