[الصدقة باب عظيم من أبواب الخير]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فلا زلنا عند حديث معاذ، ووصلنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) ، تلك عادة الحياة.
أن الضد يقضي على الضد، فالماء ضد النار، والماء أقوى من النار.
ومن عجب أن يأتي حديث: (أن الملائكة لما وجدت خلق الجبال عظيم، قالت: يا رب هل خلقت خلقاً أعظم وأقوى من الجبال؟ قال: بلى، قالوا: ما هو؟ قال: الحديد، قالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من الحديد؟! قال: بلى، قالوا: ما هو؟ قال: النار -النار تذيب الحديد-، قالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من النار؟ قال: بلى، الماء، وقالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من الماء؟ قال: بلى، المؤمن يخفي صدقته فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه) ، هذه قوة نفسية ومعنوية عجيبة.
فالضد يقضي على الضد، فالماء يطفئ النار، وهذا على سنن الحياة، ولكن قدرة المولى فوق هذا كله، فهو الذي أعطى النار خاصية الإحراق، ويقدر على أن يسلبها تلك الخاصية فتكون ناراً بلا إحراق.
وهذه نار النمرود، مكثوا سنين يوقدون النار ويجمعون لها، وبالمنجنيق ألقوا إبراهيم، فقال الله لها: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩] ، فسلبت خاصية الإحراق.
الماء سائل شفاف يضربه موسى بعصا صغيرة، قال الله: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:١٨] ، هي عصا عادية، فيضرب بها البحر فينفلق: {كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:٦٣] ، فالذي سلب الماء سيولته هو الذي سلب النار إحراقها.
وكذلك الحال في ناقة صالح عندما خرجت من جبل أصم، وعصى موسى يلقيها في الأرض فتصير حية تسعى، ويمسكها فترجع إلى سيرتها الأولى.
فمظاهر القدرة الإلهية في هذا الكون تبين لنا أن الله فاعل مختار، يفعل ما يشاء سبحانه، وذلك حتى ينتزع من الإنسان الجحود العنيد، وليوجد عنده الإقرار بقدرة المولى سبحانه وتعالى التي لا يجحدها إلا معاند: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:١٤] .
فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بوقائع قانون الحياة: بأن الماء يطفئ النار، وهذا شيء مشاهد ملموس، وكما أشرنا سابقاً، فإن السنة والكتاب يصوران المعنويات في صورة محسوسة، فالصدقة هي شيء من الطعام أو من المال تخرجه، فيكون لهذه الصدقة تأثير على الخطيئة، وهذا الأثر أمر لا ندركه بالحس ولا بالعقل؛ لأنه ليس عندنا إمكانيات لنتصور هذا الأمر، فيحيلنا صلى الله عليه وسلم على محسوس ملموس ندركه.
لكن ما هي العلاقة بين الصدقة والخطيئة والماء والنار؟ الماء سائل شفاف بارد، والنار مادة ملتهبة محرقة ليس لها جرم.
فكذلك الخطيئة معصية، والصدقة طاعة، وكلاهما ضد الآخر، والخطيئة لها تأثير في النفس، والصدقة لها تأثير على النفس، هذه بالطمأنينة والارتياح، والخطيئة بالقلق والانزعاج، ولا تجد إنساناً يخطئ خطيئة ويطمئن أبداً.
والذي يهمنا: أن الصدقة في مقابل الخطيئة تلغيها، كما أن الماء في مقابل النار يطفئها، بأي كيفية؟ الله تعالى أعلم.
ويذكر بعض العلماء لهذا الحديث رواية عند أحمد: (الصدقة تطفئ غضب الرب) ، وليس بينهما مناكرة، لأن حرارة الخطيئة من أثر غضب الرب، ولولا غضب الله سبحانه وتعالى على الخطيئة ما كان لها أثر يؤثر على الإنسان بالقلق والاضطراب، ولو كان المولى يرضاها ويحبها ما أثرت على الإنسان بشيء.
إذاً: لكونها داخلة تحت ما يغضب الله كان لها هذا التأثير، و (تطفئ غضب الرب) ، أي: أثر الخطيئة التي أغضبت المولى سبحانه؛ إذاً لا منازعة ولا معارضة بين الروايتين.
وقد جاء في الترغيب في الصدقات: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) ، (كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس) ، ومن السبعة الذين يظلهم الله: الرجل الذي تصدق وأخفى الصدقة.