[فضل القرآن]
آخر هذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (والقرآن حجة لك أو عليك) ، انظر إلى ترتيب هذا الحديث، لو كان قرآناً لقال كل إنسان: ما علاقة كل جملة بالتي قبلها؟ ولكن انظر إنه الوحي أيضاً، فالقرآن جامع لكل ما تقدم، والقرآن هو إمام كل مؤمن، والقرآن شامل وجامع لكل ما في هذا الحديث وغيره؛ ولهذا ختم به صلى الله عليه وسلم تلك التوجيهات الكريمة في هذا الحديث الشريف، والقرآن هو كتاب الله المقروء، يقول صلى الله عليه وسلم: (حجة) ، والحجة: السلطان والبرهان والدليل (لك أو عليك) حجية القرآن قائمة على العباد، وقد أوحى الله به لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد شاهد العالم كله صدق تلك الحجة وقوتها، وإذا أردنا أن نلم بفضله ولو إلمامة خاطفة نجد قوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:٩] ، ثم نجد في افتتاحيته: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] ، ونجد بعدها: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:٢] ، حجية القرآن في جميع مجالات الحياة، وتجد القرآن هادياً فيها للتي هي أقوم.
والأصوليون وعلماء التشريع يقولون: الحياة بكاملها -سواء عند المسلم والكافر- في أحد أمرين، إما درء مفاسد، وإما جلب مصالح، ولا تجد إنساناً يسعى في هذه الحياة، مسلماً كان أو مشركاً، إلا لأحد أمرين يحققهما لنفسه، إما أن يدرأ عن نفسه شراً، وإما أن يجلب لنفسه خيراً، ولذا يقول الشاعر الجاهلي: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع يضر عدوه، وينفع صديقه، وقالوا: لقد جاء الإسلام لتحقيق هذين الغرضين، وزاد ثالثة لم تأت بها قوانين العالم، ولا مطامع العالم، ألا وهي الحث على مكارم الأخلاق؛ ولذا لا تجد قانوناً شرقياً أو غربياً، أو وضعياً اجتماعياً أو جنائياً، لتنص مادة فيه على مكارم الأخلاق، فهي قوانين إما مدنية، وإما جنائية، والمدنية في الحقوق والأموال بين الناس، والجنائية في ردع المجرمين والظالمين، وما سوى ذلك لا دخل للقوانين الوضعية فيها، أما القرآن الكريم فبدأ بمكارم الأخلاق، ونعت صلى الله عليه وسلم بها في أعلى مراتب الكمال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] ، ويقول صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، ويقول: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فالأخلاق موجودة من قبل، وجاء صلى الله عليه وسلم ليتممها، والقرآن يحث على البر بالوالدين: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:٣٦] مع قوله: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:٣٦] ، وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣] ، وحث على الاهتمام بالأولاد والإحسان إليهم: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:١٥١] ، وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:٣١] ، أولادك، ذوو رحمك، أقاربك، كلهم يحث القرآن عليهم أيما حث، وحث على حسن الجوار، والأمانة، والصدق، والوفاء، ومكارم الأخلاق واسعة، ومن هنا قال الأصوليون: يتفق جميع العلماء أن درء المفاسد في الشرائع السماوية إنما تعني الكليات الخمس: درء المفاسد عن: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، وقالوا: هذه يجب أن تصان في كل مجتمع، فإذا لم تكن مصانة فلا مجتمع ولا ترابط ولا أمن، أما حفظ الدين: فجاء الإسلام ووحد الدين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:٨٥] ، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٩] ، وجاء حفظه بقتل المرتد، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:١٩٣] .
وأما حفظ النفس: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:١٥١] ، وحرم القتل وجعل فيه القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:١٧٩] ، {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:٤٥] .
وأما العقل: فحرم على الإنسان كلما يشوش على هذا العقل، أو يخمره ويغطيه، وجعل في ذلك حداً.
وأما العرض والنسب: فحرم الله سبحانه فاحشة الزنا، وجعل لكل مفسدة حمى لا يقتحمه الإنسان، فحمى الدين بتحريم البدع والزندقة صيانة للدين من أن يشوش.
ومن حفظ النفس: تحريم الاعتداء ولو على سن أو ظفر.
وأما النسب: فحرم الزنا، وجعل حماه: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) ، وأمر بغض البصر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:٣٠] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:٣١] .
وأما حفظ المال -وهو عصب الحياة-: فحرم أكل أموال الناس بالباطل، وجعل في السرقة حداً، وهو قطع اليد، وهكذا جعل له حمى، فحرم الغش، وحرم التدليس، وتوعد بالويل لمن طفف بالكيل ولو حفنة قليلة.
وهكذا -أيها الأخوة- نجد أن القرآن جاء بحماية الضروريات، ودرء المفاسد، ثم جاء بالحاجيات والمتممات التي تقتضيها الحياة من العقود في المعاوضة: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:٢٧٥] ، وكذلك الإجارة، والرهن، والكفالة، والوكالة، والضمان، والمساقاة، والمزارعة، وكل ما يحتاجه العالم من أمور الدنيا.
والقرآن حفظ للأمة ضرورياتها، ورسم لها نهجها، ورسم لها طريق مكارم الأخلاق، فالقرآن حجة قائمة، وعليك أن تعرض نفسك على أوامره ونواهيه، وتسأل: أين أنت منها؟ كما أثر عن السلف: (من جعل القرآن أمامه وإمامه، واقتدى به قاده إلى الجنة، ومن جعل القرآن وراء ظهره أخذ بقفاه ودفعه حتى رمى به في النار) .
ويأتي القرآن يوم القيامة يجادل عن صاحبه ويقول: يا رب! حملته إياي، فنعم الحامل الأمين، قام بحقي، فيقول المولى سبحانه: شأنك به، فيأخذ بيده ولا يدعه حتى يدخله الجنة، ويأتي إلى غيره، ويقول: يا رب! حملته إياي فلم يحملني، وضيعني، فيقول: شأنك به، فيأخذ بقفاه فيدفعه إلى النار.