وأحب أن أشير لكم بأن منهج التخصص العلمي المادي كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا معاذ تخصص في معرفة الحلال والحرام، وهذا زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه يقول فيه صلى الله عليه وسلم:(أفرضكم زيد) ، يعني: أعرفكم بالفرائض.
وكذلك قال في علي رضي الله تعالى عنه:(أقضى أمتي علي) ، وقال في أبي عبيدة:(أمين هذه الأمة أبو عبيدة) ، وقال في ابن عباس -حبر هذه الأمة-: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل،) .
فكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم إذا اختلفوا في مسألة من تلك المسائل رجعوا إلى صاحبها إذا أشكلت عليهم آية في كتاب الله رجعوا إلى ابن عباس، وإذا أشكلت عليهم مسألة في الميراث رجعوا إلى زيد بن ثابت، وإذا أشكل عليهم شيء في الحلال والحرام رجعوا إلى معاذ بن جبل.
ومن تلك النماذج ما جاء عن ابن عباس في مجلس عمر رضي الله تعالى عنهما، وقد كان يدني ابن عباس وهو شاب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو غلام، قد ناهز الاحتلام، كما جاء في حديثه في مِنى في حجة الوداع قال: جئت على أتانٍ والناس يصلون بمنى فمررت بين الصفوف حتى وجدت فرجة، فتركت الأتان ترتع ونزلت وصليت، وقد ناهزت الاحتلام حينئذٍ.
وحجة الوداع في أخريات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان شاباً ناهز -قارب- الاحتلام، ومع ذلك كان عمر يدنيه ويدخله في مجلسه، وفيه شيوخ قريش، فقال بعضهم: علام يدخل عمر علينا هذا الغلام، ولنا أولاد مثله، فعلم بذلك عمر، فأراد أن يعلمهم قدر ابن عباس، وأنه لا يدخل ابن عباس معهم لمجرد قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب -وإن كانت هذه لها قيمتها، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:٢٣] ، فله حق القربى- ولكن لشيءٍ آخر اختص به.
يقول ابن عباس عن نفسه: فدعا عمر ذات يوم الناس ودعاني، فعلمت أنه ما دعاني إلا لأمر، وهذا من الفقه والذكاء، فلما اجتمعوا سأل عمر رضي الله تعالى عنه: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر:١] ، فقالوا: بشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح وانتشار الإسلام، وابن عباس ساكت، قال له عمر: ما تقول أنت يا ابن عباس، قال: لقد نَعَت إلينا رسول الله وهو بين أظهرنا قال: وكيف فهمت ذلك؟ قال: لأن الله يقول: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}[النصر:١-٢] ، والله قد أرسل رسوله ليبلغ الرسالة، فإذا كان الأمر كذلك فقد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، وجاهد في سبيل الله حتى علت كلمة الله، وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فكأنه أتم رسالته وأدى مهمته، ولم يبق إلا أن يتوجه ويلقى ربه لينال جزاءه.
فقال عمر: وأنا أرى فيها ذلك.
وسألهم عن ليلة القدر فتكلموا فيها بنصوص كثيرة حتى سأل ابن عباس فقال: لسبع بقين أو لسبع خلون من العشر الأواخر.
يعني إما في ليلة ثلاث وعشرين وذلك من قوله: لسبع بقين من الشهر، أو ليلة سبع وعشرين لقوله: لسبع مضت من العشر الأواخر، قالوا: وكيف هذا؟ فذكر لهم ابن عباس توجيه ذلك.