[الصدقة برهان]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فنواصل شرح حديث أبي مالك الحارث بن عاصم الأشجعي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأان أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) وقد تحدثنا عن بعض ألفاظه وفقراته، ووصلنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (والصدقة برهان) ، ذكر الصدقة بعد الصلاة، كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه: (الزكاة قرينة الصلاة، الصلاة حق البدن، والزكاة حق المال، والله! لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة) .
وجمهور العلماء على أن المراد بالصدقة فريضة الزكاة في المال، سواء في بهيمة الأنعام، أو في الحبوب والثمار، أو في النقدين أو غيرهما؛ لأن الله سماها صدقة في قوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:١٠٣] ، والذي يأخذه صلى الله عليه وسلم جبراً عليهم إنما هي الفريضة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت، ومن لم يؤدها أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) .
يقوم بتحصيلها ولا يأخذ شيئاً منها، لماذا؟ لأمرين: الأمر الأول: أنها أوساخ الناس {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:١٠٣] .
الأمر الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي يجمعها ويقاتل عليها، ويعاقب من منعها بأن يأخذ نصف ماله عقوبة له، فلو أخذ منها درهماً واحداً، لوجد المنافقون مطعناً يطعنون به، وقالوا: قام في شأنها من أجل مصلحته، ولكن الله سبحانه وتعالى أغناه عنها، وطهره منها، وليس لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا آل محمد منها شيء.
والصدقة بعمومها -كما في هذا الحديث- تشمل الفريضة والنافلة، وكلمة صدقة وبرهان مرتبطان، والبرهان: هو الشعاع الذي يقابل ضوء الشمس، فهو مرتبط بالنور في الصلاة، ومرتبط بالضياء في الصبر، وسمي هذا الشعاع برهاناً، وكذلك الحجة القاطعة تسمى برهاناً؛ لأنها دليل يبين الحق ويثبته.
فما علاقة الصدقة بالبرهان؟ وما هو ارتباط الصدقة بإقامة الحجة؟ نرجع إلى الصدقة وإلى الصدق، الصدق ضد الكذب، والصدقة تتفق في المادة الأساسية مع الصدق، فأصل المادة: (صاد ودال وقاف) ، والتاء في الصدقة (للتأنيث) .
إذاً: الصدقة والصدق من مادة واحدة، والصدق ضد الكذب، والصدقة دليل على صدق من يقول: أنا مسلم، ودليل على إيمان المتصدق بالله وبوعد الله؛ لأن الله سبحانه قال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:٢٦١] ، وقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:٢٤٥] .
فالمتصدق حقيقة يتعامل منه مع الله، ومن هنا تأتي آداب الصدقة، وآداب الزكاة، وكيف تكون الصدقة برهان صدق على إيمانه، وقد أشرنا فيما مضى أن قانون الحياة، وتعامل الإنسان مع الآخرين، مبناه على المعاوضة، أو كما يقال: المقايضة، وكان التعامل قبل النقد بالمقايضة، تدفع براً لإنسان وتأخذ منه تمراً، تستأجر أجيراً ليعمل وتعطيه خبزاً أو شعيراً، كان لا يوجد نقد، تعطي عشرين شاة وتأخذ ناقة، مقايضة السلعة بالسلعة؛ لأن قانون الحياة معاوضة في المعاملة، فالأجير يأخذ أجراً بقدر عمله وإنتاجه، والأجراء يتفاوتون، هناك عامل وفني، و.
إلخ.
وكذلك البيع والشراء، والأخذ والعطاء، والآن تدفع نقداً وتأخذ سلعة، فتدفع النقد وأنت ممنون، وتأخذ السلعة وأنت ربحان، وكذلك البائع المقابل يأخذ الثمن وهو فرحان، ويدفع السلعة إليك وهو ربحان، وكل يقايض الآخر ويتعاوض معه، وينتظم دولاب الحياة، بل إن قانون المقايضة والمعاوضة -كما يذكر علماء الاجتماع- سائر حتى مع الحيوان، فالحيوانات تتعامل أيضاً بالمقابلة، لو أن عندك شاة حلوباً، فإن أكثرت لها العلف زادت في الحليب، وإن أنقصت من العلف نقص الحليب، وكذا لو عندك راحلة تريد السفر عليها، فإن علفتها واصلت بك السير، وإن أجعتها انقطعت بك في الطريق، وهكذا.
وكما جاء في قصة بعير الرجل، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ندّ علي بعيري؟ أي: هاج البعير، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين، والحيوانات عوالم وليست بعالم واحد، وقد حث صلى الله عليه وسلم على الرفق بالهرة، وبالكلب، إلى آخره، وقال: (في كل كبد رطبة أجر) ، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا بنا إلى بعيره) ، وحينما وصلوا البستان، إذا بالبعير هائج في وسط البستان، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الحائط، فقال الصديق رضي الله تعالى عنه، (يا رسول الله! على رسلك البعير هائج! قال: على رسلك أنت يا أبا بكر) ، وتقدم صلى الله عليه وسلم ودخل الحائط واستقبل البعير الهائج وحده، فلما رآه البعير أقبل إليه، وجاء ووضع رأسه على كتف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أذنه، وأخذ صلى الله عليه وسلم يصغي إليه، وبعد الحديث الذي لا ندري عنه شيئاً ترجمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا صاحب البعير! بعيرك يشتكي منك كثرة الكلف، وقلة العلف) فالكلف كثير، والعلف قليل، فهل من حقه أنه يتمرد على صاحبه أم لا؟ يجب أن تكون هناك مساواة ومعادلة، وقبل أن تأخذ لابد أن تعطي، فيجب على العبد أن يعطي بقدر ما يأخذ، وقانون الحياة في المعاوضة بقدر الخدمة، ويقول علماء الحيوان أيضاً: يوجد تعاون ومقايضة ومبادلة بين التمساح وبين بعض الطيور، التمساح من طبيعة خلقته يأكل اللحوم ويأكل النبات، فأسنانه لها شعاب، وليست ملساء كبقية الحيوانات، فإذا أكل اللحوم لا يستطيع أن ينظف أسنانه من بقايا لحم الفريسة التي يفترسها؛ لأن أسنانه لها شعب، فإذا افترس حيواناً برياً أو بحرياً فبعدما ينتهي من أكله يخرج إلى الشاطئ، ثم يفغر فاه الكبير، فيأتي ذاك الطائر الجائع فيأكل داخل فم التمساح آمناً مطمئناً؛ لأن التمساح له حاجة عنده، فيأخذ الطائر ينقر ما بين أسنان التمساح وينظفها تماماً، وفي الوقت نفسه يكون قد شبع، فالتمساح استفاد نظافة أسنانه، والطائر استفاد شبعه، ثم يذهب الطائر في حاله، ويرجع التمساح إلى البحر، وهذه معاوضة، وكان يقدر التمساح أن يطبق فمه عليه ويأكله، لكنه يفوت على نفسه المصلحة، وهي نظافة أسنانه.